يعود الصراع بين الكنيسة والحكومة إلى البداية، عندما وصل باشينيان وحلفاؤه إلى السّلطة...

تواجه الكنيسة الأرمنية الأرثوذوكسية وعلى رأسها البطريرك كاريكين الثاني حملة شعواء من قبل رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان ومعاونيه. ويشمل فريق المعاونين المشاركين في الحملة كلّاً من وزير الصحة آرسين طوروسيان ومعاون رئيس الوزراء لشؤون التربية والرياضة والثقافة آراييك هاروتيونيان إضافة الى النائب ليفون زاكاريان الذي طالب بمصادرة الأراضي التي كان سلف باشينيان قد منحها للكنيسة لبناء الكنائس. وقد شارك هذا الأخير في تأسيس حركة "أرمينيا جديدة – بطريرك جديد" الداعية لاستقالة كاثوليكوس الأرمن.

الكنيسة تلوم باشينيان على ضياع ارتساخ

هذه الحملة ضدّ الكنيسة الأرمنية بدأت تتصاعد منذ العام 2020 بعدما انتقد الكاثوليكوس الارمني كاريكين الثاني رئيس الوزراء بشدّة لدوره في خسارة الحرب ضد أذربيجان، والتي ساهمت بضياع إقليم ارتساخ، داعياً إيّاه إلى الاستقالة بسبب الشرخ الكبير الذي أحدثه في صفوف الشّعب الأرمني. وقد ازدادت حدّة الخلاف بين الكنيسة ورئيس الوزراء الأرمني بعد جولة الصّراع الأخيرة قبل أسابيع قليلة في آرتساخ والتي أدّت إلى هزيمة أرمنية جديدة أدّت إلى سيطرة أذربيجان على الإقليم بالكامل ما ساهم في نزوح أكثر من مئة ألف من أصل 120 ألف أرمني في الإقليم. وما فاقم من سخط الكنيسة على باشينيان إعلانه أنّه مستعد لتوقيع اتفاقية سلام مع أذربيجان والاعتراف بسيادتها على آرتساخ. وقد أعلن الأسقف باغرات جالسستانيان، رئيس أبرشية تافوش للكنيسة الأرمنية، أنّ الكنيسة تعارض موقف باشينيان جملة وتفصيلاً. وقد أكّد هذا الموقف المجلس الروحي الأعلى للكنيسة الأرمنية. هذا جعل قادة الكنيسة وعلى رأسهم كاريكين الثاني يطالبون باستقالة باشينيان.

وردّاً على تحميله مسؤولية ضياع آرتساخ، اتّهم باشينيان الكنيسة الرسولية الأرمنية بالتدخّل في السياسة، ممّا أثار ردّ فعل لاذعًا من مكتب رئيسها الأعلى الكاثوليكوس كاريكين الثاني. وقد وصل الحد بباشينيان إلى اتّهام الكنيسة بتنظيم مؤامرة والسعي لتنظيم أحزاب وتمويل أخرى ضده. وطالب باشينيان الكنيسة بالاهتمام بشؤونها وعدم التدخّل بالسياسة. كذلك اتّهم نوّاب في البرلمان الأرمني الكنيسة الأرمنية بالتدخّل في السياسية مندّدين بعظات كاريكين الثاني، خصوصاً تلك التي ألقيت خلال قدّاس عيد الفصح في كاتدرائية القديس غريغوريوس المنور في يريفان في 9 نيسان، والتي أعلن فيها أنّه "عندما تتوقّف العدالة والحقيقة عن أن تكونا جوهر تعهداتنا وأنشطتنا في الدولة والحياة العامة، سنستمر في مواجهة مظاهر عدم المساءلة".

كلّ هذا زاد من فتور العلاقة بين الكنيسة من جهة والحكومة برئاسة باشينيان من جهة أخرى. هذا جعل كاثوليكوس عموم أرمينيا كاريكين الثاني يعلن قبل أشهر أنّ العلاقة مع باشينيان لا تتعدّى الأمور الشكلية البروتوكولية. وقد لاحظ المراقبون أنّ رئيس الوزراء وكبار أعضاء حكومته غابوا عن الأحداث الكنسية الكبرى، مثل قداس عيد الميلاد، منذ عام 2021 على الأقل.

خلفيّات الصراع

ويعود الصراع بين الكنيسة والحكومة إلى البداية، عندما وصل باشينيان وحلفاؤه إلى السّلطة بعد موجة من الاحتجاجات في الشوارع عام 2018، حين أطاحت "الثورة المخملية" بالحرس القديم الذي حكم البلاد لعقدين من الزمن وتمتع بعلاقات جيدة مع الكنيسة. ولوهلة بدا أنّ الحماسة قد تؤدّي إلى إسقاط النخبة الكنسية في البلاد أيضًا ما جعل مجموعة من الكهنة المدعومين من باشينيان يطلقون حملة تحت شعار "أرمينيا الجديدة – بطريرك جديد" طالبت بإقالة رئيس الكنيسة الكاثوليكوس كاريكين الثاني وعدد من الأساقفة.

في ذلك الوقت، نأت السلطات الجديدة بنفسها عن الانتفاضة داخل الكنيسة، والتي فشلت في النهاية. ومع ذلك، كان العديد من رجال الدين المعروفين مقتنعين بأنّ باشينيان كان يقف خلف هذه الحملة بغية تطويع الكنيسة، بعدما سيطر على كافة مفاصل السلطة في أرمينيا. وقد أعلن المحلل السياسي الأرمني المعروف هرانت ميكايلين أنّ باشينيان يهدف إلى تفكيك كامل السلطات والمؤسسات المدنية والدينية التي لعبت دوراً محورياً في تاريخ أرميني وعلى رأسها الكنيسة الأرمنية التي كانت أول كنيسة تتأسس في العالم، وتصبح مؤسسة رسمية في المملكة الأرمنية في العام 301 ميلادي. وقال ميكايلين: "لقد أخضع باشينيان الحكومة، ثم البرلمان، ثم المحاكم، وأراد القيام بثورة ضدّ الكنيسة، وهو الأمر الذي لم ينجح"، مشيراً إلى أنّ باشينيان عيّن أحد الكهنة المتمرّدين رئيسًا لجامعة غيومري.

السبب الذي يدفع باشينيان إلى تسعير حملته ضدّ الكنيسة يكمن في تراجع شعبيّته بشكل كبير، في مقابل صعود شعبية الكنيسة

سلطة الكنيسة تنمو

ويعتقد المحلّل السياسي ميكايلين أنّ السبب الذي يدفع باشينيان إلى تسعير حملته ضدّ الكنيسة يكمن في تراجع شعبيّته بشكل كبير، في مقابل صعود شعبية الكنيسة، خصوصاً أنّها باتت المؤسسة الوحيدة في البلاد التي تبدي معارضة علنية لسياسات رئيس الحكومة، التي تسبّبت بخسائر كبيرة للشعب الأرمني وعلى رأسها خسارة آرتساخ. وفي استطلاع للرّأي ظهر أنّ غالبية الأرمن لديهم رأي إيجابي بالكنيسة في مقابل أقلّ من 14 بالمئة أعلنوا تأييدهم لباشينيان، ما يجعل هذا الأخير غير قادر على فرض إرادته على الكنيسة. وقد اعتبر محلّلون أن التباعد بين الكنيسة والسلطة أمر مرحّب فيه خصوصاً لجهة إيجاد قوّة يمكن أن تحدّ من نفوذ وسلطة باشينيان.

هذا يزيد من اندفاعة رئيس الوزراء الأرمني لضرب دور الكنيسة الأرثوذوكسية الأرمنية ولو كان من شأن ذلك ضرب الهويّة والإرث الارثوذوكسيين للأرمن. فهو قام بإلغاء مادّة تدريس تاريخ الكنيسة الأرمنية في المدارس على الرغم من احتجاج غالبية الأرمن على ذلك. إضافة إلى ذلك فإنّه بدأ بدعم القيم الغربية الليبرالية، خصوصاً لجهة الاعتراف بحقوق المثليين جنسياً كما حصل حين دعم عملية تحويل الجنس التي خضعت لها بطلة رفع الأثقال الأرمنية ميلين دالوزيان.

ومن شأن باشينيان إذا نجح في مسعاه أن يطيح بالمؤسسة الرئيسية التي حافظت على هوية الأرمن على مدى أكثر من 1700 عام، بما يساهم بخسارة جديدة للأرمن وقد تكون الأقسى لهم. لكن هذا من غير المرجّح أن يحصل في ظلّ تصاعد نفوذ الكنيسة وتراجع شعبية باشينيان.