أمام كلّ التحديات الاقتصادية والمالية، من دون التطرّق إلى كيفية تطوّر المصالح السياسية وزيادة عدد اتفاقيات السلام والتطبيع مع العديد من الدول المنتجة للنفط، يبدو اللجوء إلى خفض انتاج النفط مستبعداً...

أعادنا التاريخ يوم أمس الواقع فيه 16 تشرين الأول، إلى ذكرى مرور نصف قرن، بالتمام والكمال، على استعمال العرب "سلاح النّفط" في وجه الغطرسة الإسرائيلية وداعميها. تقدّم الزمن 50 عاماً، و"المشهد هو هو"، على حدّ قول محمود درويش في مطلع قصيدة ذباب أخضر. "يعلو الآذان صاعداً من وقت الصلاة إلى جنازات متشابهة: توابيتُ مرفوعةٌ على عجل، تدفن على عجل... إذ لا وقت لإكمال الطقوس. فإنَّ قتلى آخرين قادمون، مسرعين، من غاراتٍ أخرى". فهل يعيد التاريخ نفسه ويضغط العرب بالنّفط لإيقاف مجزرة غزّة بعد عملية "طوفان الأقصى"؟

الأمل بنصر عسكري مدعوماً بغطاء اقتصادي، على غرار ما حصل في منتصف تشرين الأول من العام 1973 أمامه جملة من التحديات الاستراتيجية.

تحديات استخدام سلاح النفط

- سلاح النّفط أصبح يستخدم من قبل الجهات الطالبة، ولم يعد مقتصراً على العارضين. وهذا ما حصل عقب الحرب الرّوسية الأوكرانية. حيث فرضت استراليا والدول الاوروبية مطلع هذا العام سقوفا سعرية على استيراد النّفط والغار الروسيين. وذلك على الرّغم من اعتمادها الكبير في صناعاتها وحاجاتها المنزلية على مصادر الطاقة الروسية. ويحدّد الاتفاق على سبيل الذكر سقفاً لسعر برميل المشتقّات النفطية الأغلى ثمناً على غرار وقود الديزل عند مئة دولار، مقابل سقف للمنتجات الأقل جودة عند 45 دولاراً. هذا وكان الاتّحاد الاوروبي قد فرض في كانون الأول 2022 حظراً على الخام الروسي الذي يصل بحراً، وحدّد مع شركائه في مجموعة السبع سقف 60 دولاراً للبرميل، على الصادرات حول العالم.

- وضع دول العالم الأول، وفي مقدمتها الاتحاد الاوروبي، خططاً طموحة للوصول إلى الحياد الكربوني لأهداف مناخية. حيث يعتزم الاتّحاد خفض انبعاثاته من غاز ثاني أكسيد الكربون بواقع 55 في المئة بحلول عام 2030، والوصول إلى صفر انبعاثات بحلول العام 2050. الأمر الذي دفع نحو الاعتماد بشكل كبير ومكثّف على الطّاقة المتجددة. فوصل حجم الطاقة المنتجة من المصادر النظيفة والمتجدّدة في الاتحاد الأوروبي إلى أكثر من 40 في المئة.

- لجوء العديد من الدول حول العالم إلى الفحم وإعادة تشغيل المفاعلات النووية لتوليد الكهرباء عقب الصدمة التي أحدثتها الحرب الروسية. وعلى الرّغم من أنّ هذين التدبيرين يتعارضان مع الالتزامات البيئية إلّا أنّهما يشكّلان بديلاً متاحاً عن النّفط والغاز في حال تخفيض الإنتاج وزيادة الأسعار.

- تبدّل الظروف الاقتصادية في الدول المنتجة للنّفط، وارتفاع خشيتها من تعثّر الطلب في حال عمدت إلى تقليص الإنتاج بشكل كبير. وهي في جميع الحالات تحاول عبر "أوبك+" عدم زيادة الإنتاج اليومي عن 100 مليون برميل لكي تحافظ على طلب مقبول وسعر مفيد لها.

- تحوّل الولايات المتحدة الاميركية إلى منتج رئيس لا يستود النّفط إلّا في حدود ضيّقة بعدما كانت المستورد الأكبر في العالم.

نتائج استخدام سلاح النّفط

وعلى الرّغم من هذه التبدّلات العميقة يبقى خليط الوقود الأحفوري يشكّل 80 في المئة من مجمل الطاقة المنتجة عالمياً"، يقول الخبير المتخصّص في شؤون النفط والطاقة عامر الشوبكي. لذلك ستكون النتائج كبيرة في حال استخدام العرب الذين يسيطرون على منظّمة الدول المصدّرة للنفط – أوبك، هذا المصدر كسلاح". وبمقارنة بسيطة مع العام 1973 يتبيّن أنّ "استخدام هذا السلاح الذي عرف بـ "صدمة النفط" لمدّة خمسة أشهر وقتذاك، أدّى إلى ارتفاع أسعار النفّط 70 في المئة، ومفاقمة التضخّم وإصابة الاقتصاديات بالرّكود التضخمي". وأيّ حركة بهذا الاتّجاه، ستؤدّي اليوم بحسب الشوبكي إلى نتائج "أعمق وأكبر". وفي ظلّ مكافحة العالم للتضخّم عبر رفع الفائدة، فإنّ أيّ زيادة في أسعار النّفط من هذا القبيل ستدفع إلى ركود تضخّمي عميق.

على أهمّية هذا السلاح وفعاليته يستبعد الشوبكي استخدامه للعديد من الأسباب، وفي طليعتها: "القوانين الدولية وسيطرة الولايات المتحدة، والخشية من بدء تنفيذها قانون "نوبك" المتعلّق بفرض عقوبات على احتكار النفط ومكافحة الاحتكار والضغط على باقي دول العالم من أجل الرّفع من الإمدادات. ووجود احتياطيات كبيرة لدى الدول الغربية. وكما سيكون مثل هذا القرار كبيراً على الدول المستوردة، سيكون كبيراً أيضاً على الدول المصدّرة. هذا عدا عن أنّ بعض الدول العربية المنتجة للنفط ترتبط بعلاقات مع إسرائيل، وبعضها الآخر كان قاب قوسين أو أدنى من إبرام اتفاق سلام معها".

تخفيض طوعي

ومع هذا فإنّ الامر "سيأخذ منحى آخر، خصوصاً في حال قامت السعودية بتخفيضات طوعية كما جرت عليه العادة مؤخّرا"، برأي الشوبكي. "وقد المح إلى ذلك وزير الطاقة السّعودية قبل أيام، بأنّ المملكة في صدد مراجعة أحوال الأسواق والخفض الطوعي، كخطوة استباقية. ما يعني إحباط الجهود العالمية في كبح التضخّم، والذهاب بالاقتصاد العالمي إلى الركود التضخّمي مرة أخرى. نظراً لارتفاع الاسعار وتأثيرها على جميع أنواع السلع والخدمات".

التأثيرات حتميّة للصدمات النفطية

أمام كلّ هذه التحديات الاقتصادية والمالية، من دون التطرّق إلى كيفية تطوّر المصالح السياسية وزيادة عدد اتفاقيات السلام والتطبيع مع العديد من الدول المنتجة للنفط، يبدو اللجوء إلى خفض انتاج النفط مستبعداً. إلّا أنّه في المقابل فإنّ هذا لا يعني بالضرورة عدم تأثّر النفط حول العالم بتداعيات ما يحدث في فلسطين المحتلّة. وإن كان حجم الأضرار يعتمد على كيفية تطوّر الحرب وإن كانت ستبقى محصورة بين غزّة والكيان الإسرائيلي، أم أنّها ستتمدّد إلى الضفّة الغربية وجنوب لبنان وصولاً حتى سوريا وإيران. عندئذٍ ستكون التأثيرات على الاقتصاد العالمي حتميّة، ولن تبقى محصورة بالاقتصاد الإسرائيلي. وسيجلب ارتفاع الاسعار التضخّم على العالم ككلّ، ويؤدّي إلى النزوح نحو الملاذات الآمنة كالذهب والدولار وانخفاض في البورصات العالمية والعملات الهشّة. و"ستتأثّر أسعار الطاقة بشكل أساسي"، بحسب الباحث في شؤون الطاقة والعلاقات الدولية الدكتور شربل سكاف. "وهذا لا يعود إلى كمّية الإنتاج النفطي والغازي الإسرائيلي. ذلك أنّ إسرائيل ليست دولة ذات ثقل في انتاج النفط ولغاز، (لا تنتج أكثر من 150 ألف برميل نفط سنويا). إنّما نتيجة الخشية من انتقال الصراع إلى مناطق أخرى. ما قد يؤثر سلبا على امدادات الطاقة خاصة على مستوى قناة السويس ومضيق هرمز. وبالتالي فإنّ ارتفاع الأسعار التي نراها مؤخّراً مردّها إلى الخشية من إقفال الممرّات من جهة وإلى ارتفاع أسعار التأمين على البواخر التي تنقل مواد النّفط والغاز المسال من دول المنطقة نحو مصادرها الرئيسية".

عرقلة مسار التنقيب عن النفط في لبنان

لبنانيا يستمرّ الغموض في ما يتعلّق بمسار التنقيب عن النفط والغاز في الرقعة البحرية رقم 9. ففي الوقت الذي أعيد فيه الحديث عن استئناف الشركة المنقّبة أعمال الحفر، تستبعد الخبيرة في مجال الطاقة لمى حريز إمكانية ذلك لأسباب تقنية بالدّرجة الاولى تتعلّق بالوصول إلى طبقة مكوّنة من ترسبات مائية. ما يفترض بحسب المنطق اختراق أعمال التنقيب الطبقات الصخرية. وينفي بالتالي إمكانية وجود غاز في الطبقة العليا ونفط أسفلها". أمّا في حال الحفر أعمق من النقطة 3900 متر التي وصلتها الحفارة فإنّ هذا "يتطلّب تغيير رأس الحفّارة والانابيب وهي كلّها أمور تتطلب وقتاً"، برأي حريز. "وبحسب المعلومات المؤكّدة فإنّ الكونسورتيوم أعطى توجيهاته للبدء بطمر البئر الاستكشافي ونقل الحفارة في نهاية هذا الأسبوع إلى قبرص". وعمّا إذا كانت الشركات العاملة تخشى من تمدّد الحرب وتجاوز الضمانات المعطاة بالاتفاقيات لتحييد المنصّات عن الاعمال العسكرية، "لا يوجد أي ضمانة في الحروب"، من وجهة نظر حريز. "إلّا أنّه من المستغرب أن لا يكون هناك نفط في رقعتين تم اختيارهما بعناية كبيرة وبناء على أفضل النتائج الصادرة من المسوحات والتحليلات.

مع تحوّل النفط إلى سلاح يخشاه المستهلكون كما المنتجين، يكون قد فقد قدرته على المجابهة والتصدّي، جرياً على رأي المهاتما غاندي الذي قال يوماً ما "حارب عدوك بالسّلاح الذي يخشاه، لا بالسلاح الذي تخشاه أنت". ولم يبق في فلسطين المحتلّة إلّا "دم حجبته عن الكاميرا أسراب ذباب اخضر"، يختم محمود درويش قصيدته.