في عام 2018، أصبح الذكاء الإصطناعي حقيقة لا خيالاً، ولم يعد محصوراً في الأفلام ومختبرات البحوث، بل خرج إلى العلن ليحدث ثورة حقيقيّة انتلقت من القطاع التكنولوجي لتطال جميع القطاعات الاقتصاديّة محدثة تغييراً شاملاً في عملها في تلك السنة بدأت مسيرة تعلّم الآلة (Machine learning). وقد نمت هذه التكنولوجيا بشكل كبيرعلى أرض الواقع حتّى أصبحت أداة رئيسية تدخل في صلب جميع جوانب حياتنا اليوميّة. إبتداءً من مساعدتنا في التنقل في المدن وتجنّب زحمة المرور، وصولاً إلى استخدام مساعدين افتراضيين لمساعدتنا في أداء المهام المختلفة. واليوم أصبح استخدامنا للذكاء الاصطناعي في صلب مناهجنا التعليميّة ووظائفنا.

فما هو الذكاء الاصطناعي؟ وما فرص العمل التي خلقها؟ وما هي حسناته وسيئاته؟ وأين لبنان من هذا التطوّر؟

ما هو الذكاء الاصطناعي وأين الدول العربّية من هذا المجال؟

يعرّف خبير التحوّل الرقمي رودي شوشاني، في حديثه لموقع "الصفا نوز" الذكاء الاصطناعي بأنّه "ذكاء الآلة، أو علم يجعل الآلة تفكّر كالبشر. وقد أصبحت الدول العربيّة رائدة في هذا المجال، وخصوصا دول الخليج وعلى رأسها دولة الإمارات العربيّة المتحدة والمملكة العربيّة السعوديّة، اللتان دخلتا في سباق لقيادة قطاع الذكاء الاصطناعي حول العالم. فيما تسبق الإمارات السعوديّة. إلاّ أنّ الدولتين طالبتا شركة Nvidia بمساعدتهما لخلق شريحة تسمح لهما بالعمل على generative ai (الذكاء الاصطناعي التوليدي) بطريقة أسرع. فيما تملك الإمارات أوّل وزير حول العالم والوحيد المتخصّص بالذكاء الإصطناعي، كما أنّها طوّرت واحداً من أهمّ large language model، والذي تبنّاه الـchat gpt واسمه "فالكون". وهو مبرمج ليتمكّن من العمل باللغة العربيّة وهو ما لا نجده في معظم برامج الذكاء الاصطناعي".

ماذا عن لبنان؟

وعن واقع الذكاء الاصطناعي في لبنان يقول شوشاني "المناهج في لبنان لم تعدّل منذ عام 1997 ولذلك اجتمع الوزراء العام الماضي وأقرّوا تعديل المناهج ضمن خطّة ثلاثيّة تحتاج إلى 3 سنوات للبتّ بها. وتضمّنت الخطّة تعليم البرمجة داخل المدارس، والتي قد تفتح المجال أمام عالًم الذكاء الاصطناعي والروبوتات وغيرها من المجالات. إلاّ أنّنا نأمل أن لا تزجّ المناهج بالخبصة السياسيّة المعروفة وينتهي المطاف بعدم توافق سياسي عليها. أمّا في الجامعات، ففي لبنان جامعتان فقط تقدّمان تخصّص الذكاء الاصطناعي ومنهما نذكر الجامعة الأميركيّة في بيروت. إلاّ أنّ هذه المادّة متوفّرة لصفوف الماستر فقط. وبالتالي لا تزال الخطوات بطيئة في هذا المجال".

وافتتح الذكاء الاصطناعي طرقاً جديدة بالتعامل في الوظائف، يتابع شوشاني، "فبعد أن أثبت فيروس كوفيد 19 إمكان العمل عن بعد، إلى جانب البرمجة وثورة الذكاء الاصطناعي. أصبح لدينا فرصة لخدمة الدول جمعاء عبر منصّات كـ"أب وورك" و"فريلانسر"، اللتين توفّران لمقدّمي الخدمات فرص عمل. كما أنّه أصبح لدينا تخصّصات جديدة. وفتح الفرص إلى ابتكارات جديدة في شتّى المجالات. ومثال على ذلك نذكر أحد التطبيقات المنبثقة من chat gpt والذي يرتكز على استخراج صورة للشخص وتقديم 10 صور شبيهة لها مع تعديلات على الشّكل والملابس، وحقّق هذا التطبيق أرباحا بـ 20 مليون دولار في غضون أربعة 4 أشهر".

ولفت إلى أنّ "الذكاء الاصطناعي هدّد عمل المحلّلين، والمبرمجين، والكتّاب. ولا شكّ بأنّ وجود العامل البشري يبقى أساسا. إنّما للرقابة فقط. وأنا لا أؤمن بأنّ عمل هؤلاء الناس سيستبدل بالذكاء الاصطناعي، فمن يتقبّل الذكاء الاصطناعي ويعرف كيف يستفيد منه ويتأقلم معه سيكون الكاسب الأكبر".

ما هي فوائد ومخاطر الذكاء الإصطناعي؟

أمّا أماندا هاشم، مسؤولة القسم التعليمي (Educational lead) في ZAKA، وهي شركة متخصصة في الذكاء الاصطناعي، فتقول أنّ "فوائد الذكاء الاصطناعي غير محصورة في مجتمع معيّن، حيث أنّ الذكاء الاصطناعي هو أداة يمكن استخدامها في أهداف تخدم البشريّة وأخرى تدمّرها. ويمكن استخدامه لتطوير جميع القطاعات. ومثالاً على ذلك، أوّلا، نذكر القطاع التربوي: حيث تمّ استخدام الذكاء الاصطناعي لتطوير المناهج بطريقة تتناسب مع القدرة الاستيعابيّة لكلّ طالب. كما تمّ تطوير تطبيق اسمه لامينغو، يساعد الطلاب على تعلّم لغّات جديدة بواسطة الذكاء الإصطناعي. فعندما يسأل التطبيق المستخدم سؤالاً، يحدّد له مستواه اللغوي من خلال إجابته فينقله إلى المرحلة التي عليه الإنطلاق منها. وفي القطاع الطبّي يستخدم الذكاء الاصطناعي لرصد أمراض في مراحل مبكرة. فضلا عن القطاع الإقتصادي والتكنولوجي. كما تستخدم هذه التقنيّة والتي تعرف بالـpersonalization إلى جانب التعليم، في التسويق على مواقع التواصل الإجتماعي وحتّى في مشاهدة الأفلام. أيّ في أيّ تطبيق يحتاج إلى فهم حاجات المستخدم. ويسمح الذكاء الاصطناعي باستخدام البيانات لخلق حلول ذكيّة. عبر تحاليل عميقة مستمدّة من البيانات، تساعدنا على اتخاذ القرارات".

وتلفت إلى أنّ "سيئات الذكاء الإصطناعي تختلف من مستخدم لآخر، حيث يمكن استخدامه لتطوير أسلحة، والتجسس وغيرها من الأعمال المضرّة للبشريّة".

ما حصّة اللغة العربيّة من الذكاء الاصطناعي؟

وتشير هاشم إلى أنّ حجم البيانات في الذكاء الإصطناعي باللغة العربيّة لا تتعدى نسبة الـ1%. والسبب يعود إلى حجم الذكاء الإصطناعي التوليدي. فعندما تمّ تدريب chat gpt أو أيّ نموذح لغوي آخر بشكل عام على البيانات المتاحة، دقّة هذه النماذج كانت أكبر باللغة الإنكليزيّة من العربيّة، لأنّها وبكلّ بساطة لم تتدرّب بشكل كاف على اللغة العربيّة لنقص في البيانات باللغة العربيّة. إلاّ أنّ هناك بعض الجهود التي تصبّ في هذا المجال لحلّ هذه المعضلة. ومنها نذكر "سدايا" Saudi association for data and ai، الهيئة السعوديّة للبيانات والذكاء الاصطناعي، والتي أطلقت مبادرتين: الأولى، هي معجم باللغة العربيّة يربط المصطلحات العلميّة باللغة الإنكليزيّة بمصطلحات أخرى باللغة العربيّة. والثانية، هي تطوير تطبيق اسمه "علّام" وهو ليس فقط نموذج لغوي كـchat gtp، إنّما أيضا تطبيق كامل يتلقّى بيانات إدخال نصوص input ويعمل على تلخيصات تغيير الصور، والإجابة عن الأسئلة باللغة العربيّة، وتحسين الصور التاريخيّة، وإعطاء وصف للصور، إلخ. ولا يزال التطبيق غير متاح للعامّة وهو قيد التطوير. إلّا أنّ هذه الخطوة ايجابيّة جداً، ومتقدّمة، وهي لم تأخذ بعين الاعتبار اللغة العربيّة وحسب، بل أيضا القيم العربيّة الموجودة في مجتمعاتنا العربيّة والتي لن نجدها بنماذج لغويّة كـchat gpt وغيرها".

مستقبل الوظائف في ظلّ الذكاء الاصطناعي؟

وعن تأثير الذكاء الاصطناعي على فرص العمل تجيب "لا شكّ بأنّ الذكاء الاصطناعي سيؤثّر على وظائف معيّنة، حيث سيلغي بعضها ويوجد أخرى. مثله مثل أيّ مرحلة انتقاليّة تطرأ على العالم كالثورة الصناعيّة مثلا. حيث لم نكن نسمع بوظيفة علم الداتا، ومهندس تعلّم آلي، وممارس الذكاء الاصطناعي او مهندس رؤية الحاسب. الوظائف التي تسمح أن يحلّ مكانها الذكاء الاصطناعي قد تتأثّر، من ناحية عدد الموظفين ونسبة الانتاجيّة، والمدّة التي يأخذها العمل لينتهي، بالإضافة إلى الدقّة الأعلى التي يوفّرها الذكاء الاصطناعي. هذا وتتوجّه معظم الشركات إلى استخدام الذكاء الاصطناعي في عملها حتى ولو لم تكن بحاجة إليه. وهنا تأتي اهميّة الوعي في هذا المجال من قبل الشركات والطلّاب الذين يريدون التخصّص في هذا المجال. فمن جهّة الشركات معظمها لا تمتلك الخبرات الكافية في هذا المجال وتوظّف خبراء فقط للمظاهر. أمّا الطلاب فلا شكّ بأن لديهم حماسة لدخول هذا القطاع، إلاّ انّ ليس جميعهم مؤهل للعمل به. كما أنّ النظام التعليمي في لبنان يحتاج إلى تهيئة الأرضيّة لتمكين الطلاب من التخصّص لاحقاً في هذا المجال. وعلى الحكومات حلّ الفجوة الموجوة بين قطاع التعليم وسوق العمل. وهو ما نعمل عليه في مشروع "ذكى".

في المحصّلة، يبقى الذكاء الاصطناعي واقع لا مفرّ منه، يتطوّر يوماً بعد يوم، ويجبر جميع شعوب الأرض الالتحاق به وإلاّ سيصحون على عالم يجهلونه، بعيد كلّ البعد عن الذي نعرفه اليوم.