غريب أمر المجموعة الخماسية العربية ـ الدولية المهتمّة بلبنان... في العلن تنفض يدها من الاستحقاق الرئاسي، وتلقي التبعة على اللبنانيين وتدعو قياداتهم الى الاتّفاق على انتخاب رئيس جمهورية جديد. وفي الكواليس تتدخّل بكلّ صغيرة وكبيرة لبنانية، وتعمل مجتمعة أو منفردة على تسويق هذا المرشّح الرئاسي أو ذاك، وتحاول استمالة أو اجتذاب هذا الفريق أو ذاك إلى خيارها.

وبعد أن كانت لديها مبادرة واحدة يقودها الفرنسيون، صارت لديها أيضا مبادرة ثانية إلى جانبها هي "المبادرة القطرية" وإذ صار الاستحقاق الرئاسي أسير مبادرتين أحلاهما رئيس، ولكنّ النتيجة حتّى الآن ما تزال "صفر الكل" أو "خاسر ـ خاسر" فيما المطلوب هو معادلة رابح ـ رابح. فلا المبادرة الفرنسية بطبعتيها الأولى والثانية نجحت حتّى الآن، ولا "المبادرة القطرية" بطبعتيها مقدّر لها أن تنجح هي الأُخرى، على رغم من التماهي السعودي والمصري معها والتشجيع الأميركي لها، لأنّ الانقسام السياسي العمودي حول الاستحقاق الرئاسي بات انقساماً داخلياً وخارجياً في آن معا، فكلّ فريق من الأفرقاء المنخرطين فيه يشدّ اللحاف إليه محاولا النفاذ بمرشّحه أو مرشّحيه، ما أوصله إلى ذروة التعقيد، فإمّا يذهب إلى الانجاز الشّهر المقبل كما يروّج بعض "كبار القوم" وإمّا سيدوم ويدوم ويدوم إلى أن يكتب الله أمراً كان مفعولاً...

فالقطريون في تحرّكهم أو "مبادرتهم" الراهنة التي يُمهّد لها في بيروت الآن مسؤولهم الأمني جاسم بن فهد آل ثاني تمهيداً لمهمّة وزير الدولة للشؤون الخارجية عبد الرحمن الخليفي، لا يختلفون عن حراك الفرنسيين على رغم من الاختلاف في الشكل والمضمون، الذي يقوده الموفد الرئاسي جان ايف لودريان، فـ"أبو فهد" القطري يقول لكلّ من الفريقين المتنافسين في الانتخابات الرئاسية ما يتلاءم وطروحاته إزاء الاستحقاق الرئاسي، لفريق المعارضة الرافض ترشيح رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، يجاهر بطرح ترشيح قائد الجيش العماد جوزف عون رغم إرفاقه بأسماء مرشّحين آخرين على سبيل "التمويه"، فيما ينفي لفريق "الثنائي الشيعي" وحلفائه الداعمين لترشيح فرنجية وجود أيّ مرشّح لدى قطر وغيرها من دول المجموعة الخماسية التي تعتبر أنّ اختيار الرئيس هو على عاتق الأفرقاء اللبنانيين. في حين أنّ البلد بكلّ أوساطه وصالوناته السياسية يضجّ بأخبار عن مغريات مادّية كبيرة ستقدّمها قطر على المستويين الشخصي والدولتي لتأمين انتخاب قائد الجيش أو أيّ مرشّح آخر يشبهه.

اجتماع الخماسية انعقد على مستوى الموظفين ولمدّة 35 دقيقة فقط وانسحب منه المندوب السعودي بعد ربع ساعة 

بيد أنّ الانطباع الذي تولّد من الأحداث والتحرّكات السياسية الدّاخلية والخارجية الأخيرة يشي بأنّ الاستحقاق الرئاسي ما زال عصيّا على الإنجاز، فاجتماع الخماسية الذي كان منتظراً أن ينعقد في نيويورك على مستوى وزراء الخارجية المشاركين في اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتّحدة، انعقد على مستوى الموظفين ولمدّة 35 دقيقة فقط، وانسحب منه المندوب السعودي بعد ربع ساعة من انعقاده لتغليبه أولوية انتخاب رئيس الجمهورية على أولوية الحوار الذي لهذا الرئيس صلاحية الدّعوة إليه بعد انتخابه.

وقد انتهى هذا الاجتماع إلى انقسام جديد بين أركان المجموعة الخماسية حول مقاربة الاستحقاق الرئاسي اللبناني، بدليل أنّه لم يصدر عن المجتمعين بيان ختامي يعبّر عن موقف موحّد لهم كما جرت العادة في اجتماعاتهم السابقة، الأمر الذي دلّ إلى أحد أمرين: الأول أنّ لبنان ليس أولوية ملحّة لدى الخماسية. والثاني أنّ الانقسام كبير حول الملفّ اللبناني بين أركانها.

وقد تزامن ذلك أو تلاه اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي الذي انتهى إلى بيان تناول كلّ القضايا العربية والدولية المطروحة باستثناء القضية اللبنانية، حيث لم يأت البيان على ذكر لبنان لا من قريب ولا من بعيد. على رغم الموقف العام الذي عبّر عنه كلّ من أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني ووزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان من على منبر الجمعية العمومية للأمم المتّحدة، حيث ركّزا على ضرورة إيجاد "حلّ مستدام" للأزمة اللبنانية والاستعداد السعودي والقطري لمساعدة لبنان على تحقيقه.

انعدام التوافق الداخلي أدى إلى تشريع التدخّل الخارجي بهذا المقدار الكبير 

أمّا الأميركيون فكان همّهم في اجتماع نيويورك عبر مساعدة وزير الخارجية باربرا ليف هو تحديد سقف زمني للمبادرة الفرنسية حتى يبنى بعده على الشيء مقتضاه، في الوقت الذي يقفون خلف المبادرة القطرية التي لا تبدي الرياض تحفّظا عنها في الوقت الذي كررت موقفها على لسان سفيرها في لبنان وليد البخاري خلال احتفالية العيد الوطني السعودي وسط بيروت، حيث قال: "إنّ الفراغ الرئاسي يبعث على القلق البالغ، ويهدّد الجهود المبذولة لتحقيق الإصلاحات الملحّة، ولطالما أكّدنا أنّ الحلول المستدامة تأتي من داخل لبنان وليس من خارجه والاستحقاق الرئاسي شأن سيادي يقرّره اللبنانيون بأنفسهم، ونحن على ثقة تامّة بأنّ اللبنانيين قادرون على تحمّل مسؤولياتهم التاريخية والتّلاقي على إنجاز الاستحقاق الرئاسي". وأكّد أنّ "الموقف السعودي في طليعة المواقف الإقليمية والدولية التي تشدّد على ضرورة الإسراع في انتخاب رئيس قادر على تحقيق ما يتطلّع إليه الشعب اللبناني الشقيق. وسنواصل جهودنا المشتركة لحضّ قادة لبنان على انتخاب رئيس والمضيّ في الإصلاحات".

على أنّ أوساط المعنيين بالاستحقاق الرئاسي يقولون بعد اجتماع نيويورك أنّه سواء جاء لودريان إلى لبنان أو لم يأت فإنّ الاستحقاق الرئاسي باقٍ حتّى إشعار آخر في عنق الزجاجة، وإنّ البحث فيه يجري بين الكبار في مكان آخر فزمام التقرير في شأنه خرج من أيدي اللاعبين المحليين الذين أدّى انعدام التوافق في ما بينهم إلى تشريع التدخّل الخارجي بهذا المقدار الكبير في هذا الاستحقاق، والذي بلغ حدود إجبارهم على انجازه وفق المشيئة الخارجية.

فرنجية ما زال حاضراً بقوة في صلب الاهتمام الفرنسي

لكنّ النّقطة المركزية في حسابات الأطراف الخارجية وخصوصاً المجموعة الخماسية منها هي اقتناعها بأنّه لا يمكن انتخاب رئيس لا يحظى بالقبول لدى الثنائي الشيعي وحلفائه، بمعنى أنّه إذا كان لها الحقّ في أنّ ترشّح من تريد لرئاسة الجمهورية فإنّ لـ"الثنائي" ولحزب الله ومن يمثّل تحديداً حقّ "الفيتو". والثنائي كان ولا يزال وسيبقى متمسّكا بدعم ترشيح فرنجية الذي حسب معلومات رفيعة المستوى ما زال حاضراً بقوة في صلب الاهتمام الفرنسي، وعلى أعلى المستويات في قصر الاليزيه خلافاً لكلّ ما يطرحه لودريان في جولاته. فالاليزيه والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ومعه بقيّة أركان المجموعة الخماسية يدركون أنّ المعارضة التي يلقاها ترشيح فرنجية لدى خصومه لا تنطلق من أسباب مقنعة، وإنّما من حسابات غالبيتها شخصية أو سياسية ضيّقة لا أفق وطنياً واسعاً لها. فيما معارضة بعض أركان الخماسية له، تنطلق من الخلفية الإقليمية لحلفائه الذين يدعمون ترشيحه، في الوقت الذي توجد تقاطعات الآن بينهم وبين هؤلاء الحلفاء في سياق العمل الجاري لإقفال الملفّ اليمني، وملفات إقليمية أخرى في ضوء تداعيات الاتفاق السعودي ـ الإيراني.

وكان لودريان جاء إلى لبنان في زيارته الثالثة رافعاً شعار اللجنة الخماسية بانتخاب رئيس جديد، مركّزا على التنسيق والتوافق القائم بين باريس والرياض حيال لبنان، وذلك ضمن "الخماسية" وليس بمعزل عنها. لكنّ لودريان وقع في خطأين: الأول أنّه أسمع المعارضة أنّ مرحلة ترشيح فرنجية والوزير الأسبق جهاد أزعور قد انتهت، وأنّ المطلوب الذهاب إلى خيار ثالث، وفهم المعارضون أن المقصود بالخيار الثالث هو قائد الجيش من حيث المبدأ، وإذا تعذّر ذلك يتم الذهب إلى خيار آخر. أمّا الخطأ الثاني فكان الطريقة التي تحدّث بها لودريان مع أركان الفريق المؤيّد لفرنجية حيث "لفّ ودار" ليوصل فكرته القائلة بالخيار الثالث، ليأتيه الردّ من هؤلاء أنّهم علموا بهذا الخيار وبكلّ ما دار في شأنه بينه وبين أركان فريق المعارضة، على رغم من أنّهم، أي مؤئدي فرنجية، صدّقوا للوهلة الأولى مقولة أنّه أسمع للمعارضين ما يرضيهم كجزء من الخطّة التي يسير عليها لإنجاح مهمّته وليس كتحوّل مفصلي في المبادرة الفرنسية.

وفيما رحّب فريق المعارضة بطرح الخيار الثالث الذي أسمعهم لودريان إيّاه وبدأوا يستعدّون لملاقاته، آبلغ "الثنائي الشيعي" وحلفاؤه إلى الموفد الفرنسي أنّهم متمسكون بترشيح فرنجية "حتّى ينقطع النفس" وأنّهم ليسوا في وارد التراجع عنه، وأكّدوا أنّ مشكلتهم مع فريق المعارضة "ليست على الأسماء وإنّما على ما يطرحه هذا الفريق من طروحات تؤدّي إلى نسف "اتّفاق الطائف" خلافاً لادّعائه بأنّه يتمسّك به مستبطناً مناورة غايتها الإجهاز عليه، فيما هم يعتنقون هذا الاتّفاق الذي يحظى منذ إقراره بتاييدهم وبدعم عربي ودولي واسع" على حدّ أوساط قريبة من "الثنائي".

وتضيف هذه الأوساط أن مشكلة فريق المعارضة الذي قرّر خوض معركة ضارية ضد حزب الله وحلفائه تحت عنوان إخراجهم من السلطة نهائياً، على حد ما تقول أوساطه، هو أنّه "يمعن في الذهاب إلى حرب عاد حلفاؤه ويعودون حالياً منها، ويعقدون الاتفاقات بينهم وبين ومن احتربوا معهم، تتناول مصير المنطّقة برمّتها لعشرات السنين. كذلك فإنّ فريق المعارضة لا يدرك حقيقة الخصم السياسي الذي يواجهه، أي "الثنائي الشيعي" معتقداً أنّه "سهل العريكة" وأن لا أبعاد داخلية وإقليمية له وأنّه كسابقه من أفرقاء لبنانيين كبروا وكبروا ثم راحوا يضمحلّوا...