لم يتوان أردوغان البراغماتي المحنّك، عن التنازل وشدّ الرحال إلى سوتشي للقاء بوتين الأشدّ براغماتية. المهمّ لدى الاثنين "أكل العنب وليس قتل النّاطور"

كلّما ساءت الأمور بين واشنطن وأنقرة، فرحت روسيا، والعكس صحيح. في ذروة الأزمة بين الشريكين الكبار في حلف الأطلسي، تحسّنت الأحوال بين جارَي البحر الأسود وازداد التقارب بينهما. وخلافاً لبقيّة الأعضاء في "الناتو" نسجت تركيا وبالتدريج علاقات جيدة مع وريثة الاتحاد السوفياتي، الخصم التقليدي لها وللمنظومة الغربية عموما. ووصلت العلاقات بينهما إلى مراحل استراتيجية، حتّى كاد البعض يتحدّث عن حلف اوراسي جديد، كانت ترجمته العملية من خلال مشاريع الطّاقة العملاقة والتعاون الاقتصادي والسياحي، وإبرام التفاهمات في مناطق النزاع في سوريا والقوقاز وليبيا وصولاً إلى شراء منظومة" اس 400" الدفاعية، والتّلميح بعقد صفقة مماثلة لاقتناء مقاتلات "سوخوي". كلّ ذلك كان بفضل العلاقة الخاصّة بين أردوغان وبوتين والتي مكّنت الجارين اللدودين من تجاوز المنعطفات الصّعبة في العلاقات من دون الوصول إلى درجة الصدام المباشر.

تمادي أردوغان بهذا النهج لم يرض أحيانا واشنطن، التي لم تتوان عن فرض عقوبات على حليفتها الأطلسية. لم تردّ أنقرة بمثلها، لكنّها لم تقطع الخيوط مع أميركا، لا بل منحتها الخلافات معها مساحات رحبة للمناورة مع موسكو، استفادت منها لاسيّما في الملفّ السّوري. بيد أنّ زيادة الهوّة بين الجانبين وحدّة الخلافات بينهما ضيّقا على تركيا تلك المساحات الرمادية وصعّبتا عليها الخيارات. وشكّلت الحرب الروسية – الأوكرانية اختباراً مهماً وصعباً في الآن ذاته للسياسة الخارجية التركية ومحاولتها التوازن، لاسيّما بعدما قرّر حلف الأطلسي خوض الحرب ضدّ روسيا بشكل غير مباشر من خلال دعم أوكرانيا وتسليحها. لجأت تركيا إلى فكرة "الحياد الإيجابي" حلّاً. ندّدت بالغزو الروسي وشدّدت على وحدة الأراضي الأوكرانية لكنّها لم تنخرط في العقوبات الغربية ضدّ موسكو. تعاونت دفاعياً مع كييف لكنّها لم تقطع العلاقة والتواصل مع الكرملين. ووظّفت هذه الثنائية في الاضطلاع بدور الوساطة التي أثمرت اتّفاقاً على تصدير الحبوب وتفاهماً لتبادل الاسرى، وأملت في أن تنجز وقفاً للنار. لكنّ حسابات الحقل لا تتناسب بالضّرورة مع حسابات البيدر، إذ أثار أردوغان غضب موسكو بعدما لوّح بورقة إغلاق المضائق وسلّم زيلينسكي قادة "كتيبة ازوف" وأحال طلب انضمام السويد لـ"الناتو" إلى البرلمان إرضاءً لبايدن، فضيّق بذلك خياراته المفتوحة مع بوتين. وكان الردّ الرّوسي وقف اتفاق تصدير الحبوب، ليس نكاية بكييف بل نكاية بأنقرة بحرمانها من ورقة لعب دور الوسيط.

ضربة على الحافر، ضربة على المسمار. هكذا لم يتوان أردوغان البراغماتي المحنّك، عن التنازل وشدّ الرحال إلى سوتشي للقاء بوتين الأشدّ براغماتية. المهمّ لدى الاثنين أكل العنب وليس قتل النّاطور. الرئيس التركي أراد إقناع مضيفه بأنّ ملفّ الحبوب والحرب في أوكرانيا باتا متداخلين ومتشابكين، وأنّ الخطورة هي في اتّساع رقعة الحرب وانتقالها بشكل متدرّج إلى حوض البحر الأسود. وأنّ ما يريده البعض هو المواجهة التّركية الرّوسية المباشرة، وأنّ تفريط أيّ جانب بالجانب الآخر لن يخدم مصالحهما السياسيّة والأمنية والاقتصادية. يريد أيضا إقناع روسيا أنّ سياستها السّورية ومصالحها هناك لن تتعارض مع مسألة التغيير وتسهيل المرحلة الانتقالية السياسية والدستورية بعد الحراك الشّعبي الجديد في الجنوب ومناطق السّاحل السوري.

الجهد الذي بذله أردوغان لم يقنع بوتين بالتّراجع عن موقفه والتوصّل إلى اتفاق جديد للحبوب وأمن البحر الأسود

الجهد الذي بذله أردوغان لم يقنع بوتين بالتّراجع عن موقفه والتوصّل إلى اتفاق جديد للحبوب وأمن البحر الأسود. المشكلة ليست في مقدرة الضيف على إقناع مُضيفه الرّوسي، بل بقدرته على إقناع بايدن بتسهيل تنفيذ الشقّ المتعلّق بروسيا في صفقة الحبوب، ولاسيّما فتح الأسواق العالميّة أمام الحبوب والأسمدة الروسيّة وإعادة وصل مصرف "روس سلخوز بنك" الزراعي الروسي بمنظومة "سويفت" العالمية للتحويلات الماليّة، وتالياً خسر سوق الحبوب العالمي رهانه في توصّل الزعيمين إلى اتّفاق يعيد الحياة لصفقة الحبوب، وتستعدّ أسعار هذه المادّة الحيوية للإقلاع عالياً، الأمر الذي يهدّد بأزمة غذاء جديدة.

لم يحقّق اجتماع سوتشي مراد أردوغان، لكنّه حافظ على العلاقة الملتبسة والمحيّرة بين الرجلين اللذين يدرك كلّ منهما أهمّية الحفاظ على شعرة معاوية بينهما. واشنطن لا تحبّذ علاقة كهذه لكنّها أيضا تريد إبقاء الشعرة موجودة. وفي المقابل فإنّ أردوغان يدرك أنّ قناته المفتوحة مع بوتين حاجة ملحّة ليس لتركيا فقط بل للغرب أيضاً. من المفيد لـ "الناتو" عدم غلق الأبواب بالكامل مع روسيا، والوحيد القادر على ذلك هو الرئيس التركي. هو يعرف أنّ الأهمّ بالنسبة لواشنطن ولندن، أن تبقى القناة التركية معبراً لجرعات الاوكسيجين التي تحتاجها موسكو كي لا تختنق، حتى لا تضطر إلى الارتماء الكامل بالأحضان الصينية. التّحالف الروسي الصيني أخطر بالنّسبة لهما من التحالف الروسي التركي. لذا لدى أردوغان مساحة كبيرة للمناورة في العلاقات بين الغرب وموسكو، وهذا ما يعرفه بوتين تماماً، لذا هو أيضاً لن يضيّع أيّ فرصة لتحقيق الفائدة وتوجيه الرسائل.