قدّرت وزارة الاشغال العامّة والنّقل في المسح الذي أجرته في العام 2011 مساحة الأملاك العامّة البحرية بحدود 4.9 مليون متر مربع. "وقد يرتفع هذا الرّقم إلى ما بين 6.7 و7 ملايين متر مربع في المسح الجديد
لم يسمع اللبنانيون خلال السنوات الماضية الطوال، عبارة "الأملاك العامّة البحرية"، من دون "لازمة" التعدّيات. فكما يتكرّر بيت شعر محدّد في آخر كلّ مقطع من القصائد العربيّة الكلاسيكية، تتردّد الانتهاكات مع كلّ ذِكر للملك العام عموماً، والبحري خصوصاً. وإذا كانت اللازمة في الشّعر هي المحور الذي يهدف لجذب المستمع والتشديد على المعنى، فإنّها لا توحي عند الحديث عن أملاك الدّولة إلّا بالفساد والمحاصصة والتقاسم والإهمال والفوضى... وتطول الأوصاف بقدر ما نتعمّق في البحث والتدقيق.
في المقابل، إن كان من شيء يتّفق عليه معظم اللبنانيين على مختلف مشاربهم، فهو الثّقة بالمؤسّسة العسكرية. فهذه المؤسّسة التي تُكلّف بمسح أضرار النّكبات التي تلمّ بالبلد، وتوكل إليها مهام دفع التعويضات تمتاز بترفّعها ومهنيّتها، وحيادها، ودقّتها في العمل، ومصداقيّتها. وهي للغاية ستُكلّف بإجراء مسح شامل للأملاك العامّة البحرية والإشغالات القانونية القائمة والتعدّيات عليها من دون أيّ مقابل. وذلك بناء على مذكّرة تفاهم وُقّعت بين وزارة الأشغال العامّة والنقل وقيادة الجيش.ّ
إن كان من شيء يتّفق عليه معظم اللبنانيين على مختلف مشاربهم، فهو الثّقة بالمؤسّسة العسكرية
التعدّيات بآلاف الأمتار
وزير الأشغال العامّة والنّقل علي حميه وبعد شكره قيادة الجيش اللبناني قال إنّ "هذا المسح الذي ستقوم به مديريّة الشؤون الجغرافية المتخصّصة، سيحدّد الأملاك العمومية البحريّة". وعند تحديدها لا يعود هناك علامات استفهام "وين ملك الدولة، ووين الملك الخاص"، بحسب ما قال حميه في المؤتمر الصحافي. مضيفاً "سنقوم بتحديد الأملاك الخاصّة المتاخمة للأملاك البحرية، وسنحدّد نوع التعدّي القائم ووجهة استعمال التعدّي، ومساحة التعدّي الحقيقية، والجهة المتعدّية. وستعقب المسح مقارنة بينه وبين المسح السّابق الذي قام به الجيش في العام ١٩٩٦". ومن المؤكّد بحسب حميه أنّ "التعديات التي كانت في العام ١٩٩٦ بالأمتار صارت بآلاف الأمتار. وهذا ما يرتّب مسؤوليات قانونية وماليّة على المتعدّي تجاه الدولة اللبنانية".
الإشغالات المخالفة تشكّل نصف المساحة
قدّرت وزارة الاشغال العامّة والنّقل في المسح الذي أجرته في العام 2011 مساحة الأملاك العامّة البحرية بحدود 4.9 مليون متر مربع. "وقد يرتفع هذا الرّقم إلى ما بين 6.7 و7 ملايين متر مربع في المسح الجديد، إذا أخذ بعين الاعتبار إشغالات المؤسّسات التابعة للدولة"، بحسب الباحث عباس طفيلي. "وممّا تبين في المسح السّابق أن ّالمساحات المستثمرة بمراسيم وتصاريح من قبل الأفراد والمؤسّسات تبلغ 2.5 مليون متر مربع، فيما المساحة المتبقّية، وتقدّر نسبتها بحدود 50 في المئة عرضة للتعدّيات والاستباحة".
الهدف من المسح
كغيره من المسوحات الميدانية، يوفّر مسح الأملاك العامّة البحريّة قاعدة بيانات واضحة لا تبيّن التعدّيات فحسب، إنّما أيضاً الإشغالات القانونية المعطاة دون قيمتها الحقيقية. الأمر الذي يساعد الدّولة على تصويب الرسوم من جهة، ونزع التعدّيات أو فرض غرامات مجزية من الجهة الثانية. وكان مجلس الوزراء قد وافق في جلسته المنعقدة في 18 نيسان 2023 على مشروع مرسوم وزارة الأشغال العامّة والنّقل الرّامي إلى تعديل أسس احتساب سعر المتر المربّع لتحديد الرسم السنوي على الإشغال المؤقّت على الأملاك العموميّة البحريّة. وقد نصّ المرسوم 11258 على احتساب سعر المتر المربّع بالدّولار على أساس سعر صرف 1507.5 ليرات، ثم ّضربه بمتوسّط سعر صرف السّوق لليوم السّابق لتاريخ إصدار رخصة الإشغال المؤقّت للأملاك البحرية أو لتاريخ تجديدها. وللمثال فإنّ الحدّ الأدنى للرّسم الذي يفرض على المتر المربّع الواحد في الإشغال المؤقّت على ساحل البترون والذي يبلغ 900 ألف ليرة، يحتسب 600 دولار، ويضرب بمتوسّط سعر صرف السّوق 88 ألف ليرة فيصبح الرّسم السنوي 53 مليون ليرة على المتر المربّع الواحد بدلاً من 900 ألف ليرة. أمّا الحدّ الأقصى للرسوم فكان 3 ملايين و750 ألف ليرة للمناطق الواقعة عقارياً في الشياح، فيصبح 220 مليون ليرة لبنانية للمتر المربّع الواحد.
أمّا لجهة المخالفات والتعدّيات (المعروفة بالاسم والعنوان) فإنّ القانون يفرض حلّاً من اثنين، إمّا تسويتها وإمّا هدمها. وهناك فرق بين الإشغالات القانونية التي أهملت تجديد رخصها بشكل سنوي كما ينصّ القانون، وما بين الإشغالات المخالفة أصلاً للقانون وغير المرخّصة. ومع الأسف فإنّ المخالفين لازالوا يستفيدون في الحالة الأولى من قوانين تمديد المهل لعدم تسوية أوضاعهم، ومن الحماية السياسية في الحالة الثانية للحؤول دون هدم المخالفات على نفقتهم الشخصية.
الاستفادة من الملك العام
المسح على أهمّيته يثير خوف طفيلي من نية الدولة "المبيّتة" حول كلّ ما يتعلق بالملك العام فوق الأرض وتحتها. وبالتّالي من أن "يكون هدف الحكومة المبطّن هو فرز الأملاك العامة تمهيدا لبيعها أو خصخصتها أو التصرّف بها بشكل عشوائي ومتسرّع ومن دون رؤية واضحة ومسؤولة. خصوصاً أنّ المسح يترافق مع انقسام البلد بشكل أفقي في ما خصّ ردم الفجوة النقدية. فالآراء مقسومة ما بين وجهتي نظر: الأولى، تصرّ على شطب ديون المصارف في مصرف لبنان المقدّرة أقلّه بـ 72 مليار دولار. والثانية، تطالب بإنشاء صندوق سيادي يوضع فيه الجزء الأكبر من أصول الدولة وممتلكاتها وتشغيلها بطريقة عقلانية تدرّ العوائد من أجل التعويض على المودعين. وكانت الحكومة قد طلبت في موازنة العام 2022 من البلديات إجراء مسح عام حول الاملاك العامة البرية والمشاعات وتقديمها في جداول مفصلة".
الترخيص على قدم وساق
على الرّغم من هذا الواقع الملتبس فإن موجة إعطاء التّراخيص لم تهدأ، وهي مستمرّة على قدم وساق. "وقد نقلنا إلى الوزير حميه خطورة إعطاء تصاريح إشغال للأفراد والمؤسسات في ظلّ هذه الظروف"، يقول طفيلي. "فكلّ تصريح يعطى هو مشبوه نظراً لانعدام القدرة على الرّقابة والمتابعة في ظلّ تعطّل معظم مؤسّسات الدّولة الرقابية. فمن يضمن أن لا تصبح المساحة المشغولة 100 ألف متر مربع في حال كان التصريح 80 ألف متر مثلاً؟ لا أحد ببساطة لأنّ الرّقابة معدومة".
الأهمّ ألّا يذهب مسح الأملاك العامّة البحرية الذي ينتظر أن يعدّه الجيش بحرفيّته المعهودة بواحد من اتجاهين: إمّا "التنييم" في الأدراج، وإمّا "التبييت" في صندوق سيادي ما. وفي الحالتين لن تستفيد الدّولة من عائدات سنوية قد تكون كافية لتمويل عجز الخزينة بدلاً من الضّرائب الجهنّمية التي أطلّت برأسها مرّة جديدة في مشروع موازنة العام 2024.