إن تحوّل لبنان إلى بلد نفطي مؤشّر مهم، لكنّ الإصلاحات تبقى أهمّ.

في وحشة الانهيار الاقتصادي، أنارت منصّة الحفر Transocean Barents أنوارها في عرض البحر، معلنة بدء مرحلة جديدة من استكشاف لبنان لثروته النفطيّة المفترضة. الآمال المبنيّة على الخطوة الاستراتيجية التي تقودها "توتال" الفرنسية كبيرة جداً. فهي تأتي في زمن أحوج ما يكون فيه البلد إلى خبر إيجابي، يعزّز فرصه بالحصول على تدفّقات نقدية بالعملة الأجنبية؛ ولو بعد وقت ليس بقصير.

صباح أمس أعلنت شركة "توتال إنيرجيز"، التي تقود "الكونسورتيوم" النفطي بمشاركة "إيني" الإيطالية وشركة قطر للطّاقة، "وصول منصّة الحفر Transocean Barents إلى الرّقعة رقم 9، على بعد نحو 120 كيلومترا من بيروت في المياه اللبنانيّة، تمهيداً لبدء الحفر في نهاية آب الحالي. وإلى جانب المنصّة وصلت أوّل طائرة هليكوبتر إلى مطار بيروت تعاقدت معها "توتال" لنقل الفرق إلى منصّة الحفر.

التحضيرات اللوجستية.. واعدة

ليس وصول الآليتين هو المؤشر الوحيد على أهميّة الخطوة، وثقلها. "إنّما التحضيرات اللوجستية التي اتخذتها توتال والطريقة التقنية التي ستعتمدها في حفر البئر وهي تدلّ على أمرين: فائض ثقة بالنّفس، وتوقّعات عالية جداً"، يقول الباحث في العلاقات الدولية وشؤون الطاقة الدكتور شربل سكاف. "فالبئر الاستكشافي المنوي حفره سيكون هو نفسه البئر الإنتاجي. وقد استقدمت توتال تقنيّات حديثة تسمح لها إجراء تقدير لكمّيات الغاز الموجودة في البلوك رقم 9 بدلاً من حفرها لبئر آخر تقييمي". وعليه يعتبر سكاف أنّ المسار التقني والتحضيرات اللوجستية التي قامت يرفعان منسوب الإيجابية ويزيدان من احتمال تضمّن الحقل رقم 9 على ثروة غازية ونفطية".

وأخيراً وصلت!

من بعد توقيع اتّفاقية ترسيم الحدود بحوالي العام، وصلت منصّة الحفر أخيراً، وهو ما يعتبر من حيث الشّكل "مؤشّر خير"، بحسب الخبير النفطي فادي جواد. إنّما في المضمون فإنّ هناك العديد من النّقاط الإيجابية والسّلبية التي يمكن التوقّف عندها من وجهة نظر جواد ومنها:

- تقدّر فترة الحفر بـ 90 يوماً، سننتظرها بفارغ الصّبر للحصول على النّتائج الأوليّة وما إذا كان البئر يحتوي على كمّيات تجارية من الموارد النفطية. ذلك مع العلم أنّ جميع المؤشّرات التقنية والفنّية إيجابية. خصوصاً أنّ البلوك 9 أو المعروف بحقل "قانا" محاذي للبلوك رقم 72 التابع لكيان العدو الإسرائيلي، وحقل "كاريش"، اللذين يضمّان كميات واعدة وكبيرة، ويتمّ تصديرها.

- إنّ الكمّيات المتوقّع اكتشافها في حقل قانا قد لا تغطّي احتياجات لبنان من الغاز، وقد تكون أعجز من تغطية احتياجات البلد المالية أو انتشاله من أزمته الاقتصادية. فهي تبقى سند، إنّما غير كافٍ.

- الخطوة الأولى في "قانا" يجب أن تتبعها خطوات متلاحقة وسريعة في الاستكشاف والحفر في البلوكات التسعة المتبقية.

- يجب أن تترافق الخطوة مع تطوير البنية التحتية الصناعية لقطاع النّفط والغاز، التي عادة ما تسير بالتوازي مع عمليّات الإنتاج، من أجل الاستفادة من الموارد وتوظيفها في عمليّة النموّ.

- لم يترجم طرح الاستكشاف والحفر في بقية الرقع البحرية، رغبة أو اهتماماً عند أيّ من الشّركات العالمية المتخصّصة في المجال النفطي لشرائها أو التقدّم لها أو المشاركة. وهنا يطرح التساؤل إن كان الموضوع تقني أم ضغط اقتصادي من قبل الشّركات، التي عادة ما تكون مربوطة قرارتها بالمطابخ السياسية العالمية، لعدم دخول المجال اللبناني.

- الاكتشافات التجاريّة في البلوك رقم 9 قد تقلب المعادلة وتحفّز شركات كبيرة على دخول ميدان الاستكشاف والحفر في بقية الرقع البحرية.

- يطرح التشابك الكلامي بين لبنان والعدو أسئلة عن قدرة الأخير على وضع العصي في الدواليب في عملية الاستكشاف وعرقلته. وهذا ما يعيدنا إلى حادثة إقفال البئر في البلوك رقم 4 مقابل البترون على حين غرة، والاعلان عن أنّه لا يتضمّن أيّ كميات تجارية، في حين أنّ كل المعطيات كانت تدل وقتذاك على عكس ذلك. مع العلم أنّ المنطق كان يفترض حفر المزيد من الآبار في البلوك رقم 4، ومتابعة البحث وليس الاكتفاء بحفر بئر واحد.

- شدّ الحبال الحاصل في المنطقة والتهديدات المتبادلة في الخطابات السياسية، تنذر بأجواء متشنّجة قد تنعكس سلبا ًعلى المسار النفطي.

- لا يوجد أيّ لبناني من ضمن فريق العمل المؤلّف من 140 عامل، تطبيقاً لاتفاقية الحفر والتطوير والإنتاج التي تنصّ على أنّ نسبة العمالة اللبنانية يجب أن تشكّل 80 في المئة من اليد العاملة.

الترجمة المالية

تركيب أيّ اقتصاد في العالم على سكّة الإنتاج النفطي، يفترض أن ينعكس ارتفاعاً في ثلاث مؤشرات أساسية، هي: الثقة، وبالتّالي تصنيف البلد الائتماني، العملة، جاذبية الاستثمار في شتّى المجالات. فهل هذا ما سيحث مع لبنان؟

في الشقّ الأول المتعلّق بالثقة وتصنيف البلد الائتماني، المقيم بـ "القعر" من قبل وكالات التصنيف العالمية، فإنّ ما يؤثّر هو "الإصلاحات أولا واخيراً"، يؤكّد المستثمر في الأسواق المالية الناشئة صائب الزين. "وهذه الإصلاحات يجب أن تبدأ من الأعلى للأسفل. أي من القيادة السياسية، بدءاً بانتخاب رئيس للجمهورية، مروراً بتشكيل حكومة فاعلة، ووصولاً إلى سياسة نقدية تتمتّع بمصداقية عالية جدّاً يقودها المصرف المركزي". وفي ما يتعلّق بالنقطة الأخيرة يبني الزين آمالاً جديّة على إمكانية تحقيق الحاكم بالإنابة وسيم منصوري ونوّابه، خرقاً إيجابياً في جدار السياسة النقدية، الذي ظلّ حائط صدٍ في وجه الإصلاح لفترة طويلة من الزمن". وبرأيه فإنّ "تطعيم الإصلاح السياسي بالإصلاحات العملية المطلوبة، هو ما يعيد للبلد مصداقيّته وينعكس إيجاباً على سعر صرف عملته وتصنيفه الائتماني". ذلك أنّ الوقت المنتظر لإنتاج النفط قد يطول، "ولا اعتقد إنّ مجرد البدء بالحفر سينعكس فوراً، أي في الأمدين القريب والمتوسط، تحسّناً في قيمة العملة الوطنية"، يضيف الزين. "وما يؤثّر فعلياًّ هو التدفّقات بالعملة الأجنبية التي تنعكس إيجاباً على الحساب الجاري. أمّا على المدى الطويل فإنّ الامور تبقى مرهونة بإعادة التقييم وقياس مقدار الثّبات والاستقرار وعدم العرقلة السياسية لحسابات خاصّة، في عملية انتاج النفط والغاز في حال توفّر كميات تجارية".

لعل أهمّ ما يقال في هذه المرحلة الحسّاسة من تاريخ لبنان إن تحول لبنان إلى بلد نفطي مؤشّر مهم، لكنّ الإصلاحات تبقى أهمّ. فكمّ من بلد في محيطنا، وما بعد المحيطات، غارق في الفقر والعوز والانهيار النقدي وهو يعوم على بحر من النّفط؟