بعد أقلّ من شهر من زيارته الولايات المتحدة، زار رئيس الوزراء الهندي فرنسا وناقش السّبل التي يمكن من خلالها تمتين العلاقات الثنائية بين الدولتين. علماً أنّ علاقات البلدين وثيقة منذ عقود، لكنّ زخم الزيارة جعلها أكثر أهمّية.
14 تموز، تاريخ العيد الوطني الفرنسي، حضر رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بدعوة من الرئيس إيمانويل ماكرون هذا الاحتفال للتأكيد على عمق العلاقة بين البلدين، كما جاءت هذه الزيارة قبل انعقاد قمّة البريكس المُخطَّط عقدها في جمهورية جنوب أفريقيا خلال شهر آب المقبل.
على الرّغم من فارق التوقيت بين فرنسا والهند، وعلى الرّغم من المسافة التي تزيد عن 7000 كلم، فإنّ هذين البلدين يواجهان نفس التحدّي من أجل الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، في مواجهة المشاكل الاقتصادية الكبيرة التي تراكمت على مدار العقد الماضي.
يُذكر أنّ البلدين قد عزّزا التّعاون مع الولايات المتحدة الأميركية خلال العام الماضي، حيث اتفقت فرنسا والولايات المتّحدة على تكثيف التّعاون في مجالات الفضاء والإنترنت والعمل الاستخباراتي ضد الإرهاب ومشتقّاته، كما اتّفقت الهند والولايات المتحدة على شراكة الدفاع الرئيسية بينهما، واعتمدتا خارطة طريق للتّعاون الصّناعي الدفاعي وتمتين الإنتاج المشترك للأسلحة المتقدّمة.
مودي معانقاً ماكرون صورة تظهر عمق العلاقة بين البلدين
فرنسا في المحيطين الهندي والهادئ
طلب الرّئيس ماكرون حضور قمّة بريكس التي ستعقد خلال شهر آب القادم، لكنّ الطّلب رفضته موسكو بشكل قاطع. في الواقع، تمتلك فرنسا ثاني أكبر منطقة اقتصادية خالصة في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية، إنّها الدّولة الوحيدة العضو في الاتّحاد الأوروبي التي تمتلك أقاليم في المحيطين الهندي والهادئ، يقطنها حوالي مليوني فرنسي. ففي المحيط الهندي تمتلك جزيرتي ريونيون ومايوت، وفي المحيط الهادئ، تمتلك جزيرتي كاليدونيا الجديدة وبولينيزيا.
طلب الرّئيس ماكرون حضور قمّة بريكس التي ستعقد خلال شهر آب القادم، لكنّ الطّلب رفضته موسكو بشكل قاطع
المناطق الاقتصادية الفرنسية الخالصة
منذ القرن السّابع عشر، أوجدت فرنسا موطئ قدم لها في المحيط الهندي وحافظت عليه منذ ذلك الحين. ففي العام 1664 تأسّست أوّل شركة فرنسية في الهند الشرقية في محاولة للّحاق بالبريطانيين الذين أسّسوا شركاتهم الخاصّة في بداية القرن السابع عشر. حيث كان الجميع يسعون إلى التخلّص من البرتغاليين كقوة أوروبية بارزة في المحيط الهندي واستبدالها بأخرى. تدريجيًا، أنشأت فرنسا شبكة استعمارية في جنوب غرب المحيط الهندي "ريونيون" و"موريشيوس"، وسلسلة كبيرة من المراكز التّجاريّة على طول شواطئ شبه القارّة الهندية.
نشأ مفهوم المنطقة الاقتصادية الخالصة بعد إعلان ترومان في العام 1945، الذي منح الولايات المتّحدة حقوقًا حصريّة للموارد الطبيعية ضمن 200 ميل بحري من ساحلها. في وقت لاحق، وخلال العام 1958، وبعد اعتماد اتفاقيّة جنيف للأمم المتّحدة بشأن البحر الإقليمي والمنطقة المتاخمة (من 12 إلى 24 ميل بحري)، تمّ تدوين مفهوم المنطقة الاقتصادية الخالصة في اتفاقيّة الأمم المتحدة لقانون البحار. خلال العام 1982 كانت فرنسا من أوائل الدّول التي وقّعت على الاتفاقية، وكانت أيضًا عضوًا في السّلطة الدولية لقاع البحار منذ إنشائها في العام 1994، ومؤيّد قويّ للمحكمة الدولية لقانون البحار.
في جميع هذه الهيئات، تلعب باريس دورًا رائدًا في المفاوضات الدّوليّة حول المناطق الاقتصادية الخالصة، وهي من أقوى المدافعين عن الحقوق البحرية للدّول الساحلية. تاريخ فرنسا هذا، ساعد في اكتسابها حقوق سيادية على المياه البعيدة عن أوروبا. على سبيل المثال لا الحصر، خلال العام 1976 وقّعت فرنسا اتفاقية مع جزر سيشيل تمنحها حقّ الوصول إلى جزء من المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة للجزيرة، كما أنشأت مناطق اقتصادية غير حصريّة، وهي مناطق مشتركة بين دولتين أو أكثر (الهند ومدغشقر وموريشيوس).
ما هي أهمية المناطق الاقتصادية الخالصة
حسب قانون البحار، فإنّ المنطقة الاقتصادية الخالصة هي منطقة بحرية تمارس عليها الدّولة حقوقاً خاصّة في استغلالها واستخدام مواردها. لديها العديد من المزايا الإستراتيجية، منها:
أوّلاً، تمنح الدولة الحقّ الحصري في استكشاف واستغلال الموارد الطبيعية داخل هذه المناطق، بما في ذلك صيد الأسماك والتعدين وغيرها.
ثانيًا، يحقّ للدول تحديد حصص الصّيد أو إنشاء مناطق بحريّة محميّة داخل مناطقها الاقتصادية الخالصة، كما يمكنها بناء جزر اصطناعية ومنصّات لاستخراج النّفط والغاز وكلّ ما تراه حاجة لها.
ثالثًا، يجب على أيّ دولة تريد التنقّل عبر المنطقة الاقتصادية الخالصة أو تحلّق فوقها أن تحترم قوانين الدولة مالكة المنطقة، كما للدّولة المالكة حقّ منح أو رفض تصاريح لدول أخرى مهما تكن الأسباب.
الهند واستراتيجية عدم الانحياز
كانت ولادة الهند كدولة حديثة في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي. وكان همّها الأول كيف يمكن للاقتصاد المتغيّر أن يغيّر الحقائق السياسية. تقليدياً، تأتي التهديدات الأمنية الهندية من الحدود الأفغانية الباكستانية أو من حدودها البحرية. مع الوقت، أدركت الهند إنّ الممرّات البحرية حيويّة للغاية، فعمدت خلال الحرب الباردة إلى تنفيذ استراتيجية عدم الانحياز. وتوددت كلتا القوتين العظميين إليها، لكنّ الهند اختارت الهند العمل عن كثب مع فرنسا، القوّة الأوروبية الوحيدة المتبقّية في المحيط الهندي، والتي تشاركها مصلحة الحفاظ على السّلام والاستقرار.
ففي العام 1998، أقامت الهند وفرنسا رسميًا اتفاقيّة شراكة استراتيجية، وفي العام 2016 وقّعتا رؤية استراتيجية مشتركة لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، والتي تحدّد مصالحهما المشتركة في المنطقة وتلزمهما بالعمل معًا لمواجهة التحديات.
تناسب فرنسا احتياجات الهند تمامًا، ويرتاح البلدان للعمل معًا لأنّ التعاون العسكري الثنائي هو ركيزة أساسية في علاقتهما. منذ ثمانينيات القرن الماضي، أجرت الهند وفرنسا العديد من التدريبات العسكرية المشتركة الجويّة والبرّيّة والبحريّة. بالإضافة الى ذلك، ونظرًا لأنّ الداعم العسكريّ التقليدي للهند كان روسيا الاتّحادية، والتي أصبحت أكثر تشتّتًا بعد حربها مع أوكرانيا، جعلت نيودلهي أكثر جاذبية للغرب كشريك دفاعيّ. ففي السنوات الأخيرة، اشترت الهند عددًا من أنظمة الأسلحة الفرنسية الصّنع، بما في ذلك طائرات مقاتلة من طراز رافال وغواصة سكوربين وعدد من دبابات AMX-30 ومحرّكات الطائرات، حيث أنّه من الناحية الاقتصادية، يرتبط تعزيز التعاون الثنائي (الهندي – الفرنسي) بأولويات البلدين الاجتماعية والاقتصادية.
أمّا في ورقتها الإستراتيجية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، أكّدت فرنسا على أهمّية المنطقة بالنسبة للاقتصاد العالمي، كما أكّدت على أنّ المنطقة هي منصّة طبيعية يمكن من خلالها توسيع العلاقات الاقتصاديّة بما في ذلك الصادرات الصناعية إلى الأسواق الناشئة في الجنوب من العالم، وستستخدم وجودها هناك للاستفادة من مصالحها وفقًا لذلك.
وبالمثل، تريد الهند استخدام علاقتها مع فرنسا لتوسيع انتشارها العالمي. وإلى جانب الاتفاقيّات الثنائية، تريد الهند أيضاً إنهاء المفاوضات مع الاتّحاد الأوروبي بشأن اتفاقيّة التّجارة الحرّة، والتي من شأنها أن تمنح نيودلهي أسواقًا كبيرة وقابلة للحياة خارج الولايات المتّحدة الأميركية للحفاظ على النموّ والتنمية، خاصّة بعد رغبة بلجيكا الابتعاد عن الصناعات الصينية ورغبة الغرب في كسب الحرب الاقتصادية ضد روسيا.
قد يكون للهند وفرنسا ضرورات جيوسياسية عديدة ومختلفة، لكن من المؤكّد أنّ الشراكة الاستراتيجية مفيدة للطرفين كونها تعالج الحاجة الملحّة لتعزيز قوّتيهما وحضورهما في المحيط الهندي وجنوب الكرة الأرضية على نطاق أوسع. إعادة رسم لخرائط نفوذ جديدة أم تأكيد على حضور وقوّة يبقى الأمر رهن التطورات والتحالفات التي تنشط على أكثر من جهة ومحور، لعلّها تعيد التّوازن المطلوب ولا تذهب بالأمور إلى مواجهات في ساحات جديدة، خصوصاً في دول تملك ترسانات نووية.