في الفصل الأول من هذا العام، لم يرقَ الاقتصاد الألماني إلى مستوى التوقعات، وبدلاً من ذلك، انكمش الناتج المحلّي الإجمالي للفصل الثاني على التوالي، مما وضع أكبر اقتصاد في أوروبا في حالة ركود.
إيماناً بقدرتها على إعادة تفعيل الاقتصاد الالماني على المدى المنظور القريب، عمدت الحكومة الألمانية إلى ضخّ استثمارات ضخمة في الطاقة النظيفة، للتعويض عن النقص في إمدادات النفط والغاز المستورد في ظل التطورات المتصلة بالحرب الروسية الأوكرانية. إلّا أنّ المشكلة الأكبر بالنسبة لركود اقتصادها، هو التباطؤ في اقتصاد دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، كون اقتصاد هذه الدول يرتبط ارتباطًا وثيقًا ومباشراً باقتصاد ألمانيا، لذا فإنّ ركود الاقتصاد الألماني يسبّب حُكماً مشكلة كبيرة في أوروبا وخاصة دول اتحادها. إنّه حبل الصرّة الذي يحكم العلاقة بين ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي.
الركود الاقتصادي
الشتاء الدافئ هذا العام مكّن ألمانيا من الصمود بوجه الجنرال الأبيض الذي هزمها على جبهة روسيا في الحرب العالمية الثانية، حيث خفّف هذا الدفء بشكل كبير الضرر الناجم عن أزمة الطاقة، واستمرّ النشاط الصناعي في التعافي، مع إعادة الصين فتح أبوابها بعد قيود جائحة كورونا. إلّا أن هذه الوقائع لم تكن كافية لإخراج ألمانيا من دائرة الخطر، وانكمش اقتصادها بنسبة 0.3٪ مقارنة بالأشهر الثلاثة السابقة. كانت الدراسات الاستقصائية للرؤية التجارية شبه معدومة، وكان التضخّم لا يزال مرتفعاً، حيث بلغ نسبة 6.3 في المائة في شهر أيار.
مع ارتفاع الأسعار، خفّضت العائلات الألمانية الإنفاق بنسبة 1.2 في المائة، خاصّة على صعيد الأغذية والمشروبات والملابس والأحذية والأثاث والسلع المنزلية والسيارات.
كما خفضت الشركات الصناعية الألمانية إنتاجها في أواخر العام 2022 بسبب ارتفاع كلفة استهلاك الطاقة بشكل جنوني، حيث اعتمدت أوروبا على الغاز الطبيعي المسال الأغلى سعراً ليحل محل الغاز الروسي عبر الأنابيب.
فيما تتمثل المعضلة الأكبر في ألمانيا، بـ "الصادرات التي تمثّل حوالي 35 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بمعظم البلدان الأخرى"، وتحديداً صناعة السيارات، التي أقدمت شركاتها على توقيف عمليات التسليم، وحتى بيع المصانع في روسيا بسبب العقوبات، بينما في آسيا، فقد أدّت زيادة شعبية السيارات الكهربائية المصنوعة في الصين إلى تدنّي مستوى الأرباح الألمانية، حيث سجّلت شركة فولكس فاجن، وهي الشركة الصناعية المهيمنة في المنطقة ، انخفاضًا نسبته 20 في المائة تقريبًا من المبيعات في الصين في الأشهر الأولى من السنة. ومما يزيد الطين بِلّة، أن الشركات الصناعية الألمانية تتوقع استمرار تدني منتوجها.
المنافسة
حالياً، بدأ الاقتصاد الألماني بالعمل على الانتقال من مرحلة إلى أخرى ضمن مرحلة انتقالية ثابتة، حيث يراهن على مخزون صناعي واقتصادي كبيرين، سيمكّناه حكماً من التغلّب على الركود وتحقيق نموّ متزايد. والمانيا، باعتمادها على الرؤية الصحيحة في جميع مجالاتها وخاصة الصناعية منها والدعم الحكومي المستمرّ للاقتصاد، واعتمادها أيضاً على الاستثمار والابتكار والتطوير، في قطاع يضم ما يزيد عن 7000 مؤسسة صناعية يعمل فيها حوالي مليوني عامل، ستسعى على ما يبدو إلى اكتساب ميزة تنافسية في سوق تصنيع الطائرات والسيارات الكهربائية والبطاريات والأدوية وغيرها.
القلق
المانيا التي تعدّ أكبر مساهم في ميزانية الاتحاد الأوروبي على اعتبارها أكبر اقتصاد فيه، ستكون في السنوات القادمة أقلّ قدرة على المساهمة في الاستثمار الأوروبي في نفس الوقت بسبب نمو الاحتياجات الاستثمارية لاقتصادها. وتعتمد مساهمات الدول الأعضاء بشكل أساسي على حجم اقتصاد الدولة، ولهذا السبب تدفع الدول الأعضاء الأكبر والأكثر ثراءً في ميزانية الاتحاد الأوروبي أكثر مما تحصل عليه. تُستخدم الأموال التي يتلقاها الاتحاد الأوروبي من الدول الأعضاء في تمويل برامج مختلفة في جميع أنحاء الاتحاد، بما في ذلك الإعانات الزراعية وبرامج البحث والتطوير ومشاريع البنية التحتية. واليوم فإن ألمانيا نفسها تجد نفسها بحاجة لهذه الإعانات والبرامج.
وللدلالة على حجم المساهمة الألمانية يمكن التوقف عند الأرقام التي تم تداولها عن العام 2022 مثلاً حيث بلغت مستوى قياسي قدره 25,1 مليار يورو، وكانت المساهمة الألمانية في العام 2020 قد بلغت 19,4 مليار يورو.
المستقبل
رغم كل ما سبق لا توجد مؤشرات مهمّة تدلّ على أن ألمانيا تعتزم مغادرة الاتحاد الأوروبي، وهي التي كانت حجر الزاوية فيه منذ نشأته. ولا يوجد حركات كبيرة أو أحزاب سياسية رئيسية في ألمانيا تدعو إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي. ونظرًا للدور المركزي لألمانيا داخل الاتحاد الأوروبي على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، فإن أيّ إشارة باتجاه الخروج من الاتحاد الأوروبي سيكون لها تداعيات كبيرة على كل من ألمانيا وبقية الاتحاد الأوروبي.
وفي محاولة لتبسيط ما سلف، جلّ ما في الأمر أنّ ألمانيا تشعر بثقل كبير على كاهلها وهي بحاجة للتخفيف من الحمل.