خلال الأسبوع الأول من شهر حزيران من العام الحالي، كشفت وسائل إعلام عالمية عريقة أنّ ما يزيد عن عشرين رئيس جهاز أمني من دول كبرى عقدوا سلسلة اجتماعات سرّية في أوتيل Shangri-La في سنغافورة. ولوحظ أنّ روسيا الاتحادية لم يتم تمثيلها، في حين شارك في الاجتماع حوالي 600 مندوب من جميع أنحاء العالم.
وكان من بين رؤساء الأجهزة هذه، رؤساء أجهزة الولايات المتحدة الأميركية والصين والهند. كما عقد اجتماع بين رؤساء أجهزة دول "شبكة العيون الخمس" (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا) - وهو أهم تحالف استخباراتي في العالم، ويمكن إرجاع أصوله إلى فترة الحرب العالمية الثانية وغرضه تبادل المعلومات بين أميركا وبريطانيا لغرض تعزيز الجهود الحربية. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في العام 1945، بدأ تطوير هذا التحالف لمجابهة الستار الحديدي السوفياتي وجهازه الاستخباراتي وتمدّده في أوروبا وخاصّة الأجزاء الشرقية منها.
ومن المثير للاهتمام أيضًا أن اجتماعات رؤساء الأجهزة تلك لا يمكن أن تظلّ سرّاً كما رغب البعض، كون هكذا اجتماعات تتطلّب أسابيع عدّة من التخطيط اللوجستي والاستعدادات الأمنية وتبادل جداول الأعمال المقترحة بشكل عام والمسموح مناقشتها، لا سيما أنّ جدول الأعمال الخاص المتعلق بكل من أميركا والصين يتطلّب وقتاً طويلاً لوضع النقاط على حروف الكلمات، كلمة... كلمة.
هنا، قد يبدو التركيز على المناقشات الأمنية أقلّ أهمية بكثير من تسريب معلومات تتعلق بتواريخ وتفاصيل الاجتماعات، خاصّة أنّ مثل هذه الاجتماعات ومناقشة الأمور الاستخباراتية فيها تبقى سطحية، كون السبب الرئيس أنّ أحداً لا يثق بأحدٍ. وما يدعو للتساؤل كذلك: لماذا لم تصرّ الصين على وجوب حضور روسيا الاجتماعات؟ هل لأنّه لم يعد يُنظَر إلى روسيا على أنّها قوة عظمى لا يمكن مقارنتها بأميركا أو بالصين حتى؟ أم أنّه كان لدى الصين وأميركا نقاشات تتعلّق بالجغرافية السياسية الجديدة في العالم؟ أم أنّ الصين اتفقت مع روسيا لوضع خطّة مع الأميركيين لإنهاء الحرب في أوكرانيا.
تساؤلات عدّة تطرح، لكن من المؤكد أنّ اجتماعات ثنائية عدّة عقدت بين العملاقين لمنع الصراع بينهما.
بعد انتهاء الاجتماعات في سنغافورة، تسرّبت معلومة تفيد بأنّ الهند ستبتعد عن روسيا التي تعدّ المورّد الرئيسي للأسلحة الهندية الثقيلة منذ فترة طويلة، وستعمد إلى التقرّب من الولايات المتحدة نظرًا لمشاكلها مع الصين على طول حدودهما المشتركة. والحال أنّ حصول الاتفاقية بين الهند وأميركا سيضع الصين في موقف عسكري صعب.
بالطبع، ليس من الواضح إلى متى ستستمر العلاقة الأميركية مع الهند، إذا ما تمّت. لكن، دون أدنى شك، وعلى ضوء ابتعاد الهند عن روسيا، بالإضافة إلى تراجع روسيا أمام الإجراءات التي اتخذتها الولايات المتحدة لجهة تشكيل تحالفات في غرب المحيط الهادئ، لا يمكن للصين أن تخاطر بحرب، وستعمد إلى اتخاذ خطوات لتهدئة التوتر، وستعي الموقف التي هي فيه خاصة وأن توازن القوى بين العمالقة أصبح علنياً.
وبحسب معلومات تم تسريبها فإنّ الصين أكّدت على وجوب تجنّب الصراعات وزيادة التعاون بين الجميع نظرًا للواقع الجيوسياسي الذي يواجهونه، خاصّة التجربة الروسية في أوكرانيا، كما أصبح لدى الجميع شعور جديد بالطريقة التي يعمل بها الناتو، ولا سيما المعسكر الغربي إذا صحّ التعبير، أو تأكيدًا لواقع لا يمكن تجنّبه.
في الخلاصة، تثير اجتماعات رؤساء أجهزة استخبارات الدول الكبرى الكثير من الأسئلة والهواجس وتدفع إلى تخيّل سيناريوهات كثيرة عن الواقع والمستقبل، فيها ما هو خطير وفيها ما يدعو إلى القلق أكثر ممّا فيها من دوافع طمأنينة، فمجرّد الحديث عن أجهزة الاستخبارات يدفع بالمواطن العادي إلى التلّفت حوله، فهل يمكن تخيّل اجتماع يحضره كل تلك الأجهزة وطبيعة ما دار بينهم وطبيعة تعاونهم أو تنافسهم في الساحات المختلفة، لا خيار أمامنا سوى الانتظار، مع العلم أنّنا لن نعرف أبداً أغلب القضايا التي بحثوها ولن نعرف مطلقاً طبيعة ما اتفقوا عليه.