"لكل زمان دولةٌ ورجال"، مقولة قديمة جرت على ألسنة العرب عندما كانوا يتوارثون المناصب من الآباء إلى الأبناء، وها هو زعيم المختارة ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب السابق وليد جنبلاط، قد عمل بها بالأمس، بإصداره بياناً يعلن من خلاله تنحّيه عن رئاسة الحزب، وبذلك يكون الرجل المعروف بحنكته وفطنته السياسية أنهى آخر إجراءات ما قبل تسليم نجله تيمور مقاليد زعامة الجبل.

هي 46 عاماً عاشها جنبلاط بصخب سياسي قلّ نظيره. لم يستطع أحد من أقرانه من زعماء الطوائف الأخرى مجارته في كل مراحله، تنقّل بين المحاور وخطوط التماس منذ العام 1977 خلال الحرب الأهلية اللبنانية عقب تسلّمه زعامة الدروز مرغماً إثر اغتيال والده الزعيم كمال جنبلاط، إلى محاور السياسة ما بعد اتفاق الطائف العام 1989، حيث كان ولا يزال الأسرع التفافاً على الحلفاء قبل الخصوم، حتى بات دليل الأقطاب للتغيرات المقبلة على الساحة اللبنانية بفعل تأثّرها عربياً، اقليمياً وحتّى دولياً.

ومع زوال المحاور بفعل التغيّرات الكبيرة التي طرأت على المنطقة بعد الاتفاق السعودي الإيراني السوري، قرّر الرّجل أن يستريح ويفسح المجال لنجله لأن يكون لديه هامشاً أكبر في الحركة، خصوصاً مع سوريا التي كان أول من نصب لها العداء عقب خروج الجيش السوري من لبنان عام 2005، لا بل أول من تجرّأ على مهاجمة الرئيس السوري بشار الأسد بأشدّ العبارات والأوصاف مع انطلاق حركة ما عرف بـ14 آذار لتكرّ بعدها سبحة الذين جاهروا بالعداء لدمشق.  

كرّس اتفاق الطائف زعامة جنبلاط بحصّة درزية شبه كاملة في المجلس النيابي، شاركه فيها لاحقاً الأمير طلال أرسلان عن قصد أو بفعل القانون الانتخابي الجديد خلال الدورتين الفائتتين. لم يستطع الوصول إلى إنشاء مجلس الشيوخ الذي أتى الطائف على ذكره، إذ إنه بعد ثلاثة عقود من الزمن لم يترأس هذا المجلس الذي فقد الأمل من إنجازه وفق تعبيره أخيراً. مسيرة جنبلاط السياسية تكاد لا تختصر بمقال ولا حتى كتاب نظراً لما شهدته طوال عقود من "طلعات ونزلات"، إلا أنّ الثابت الوحيد فيها كان ولايزال تحالفه التاريخي مع رئيس حركة أمل رئيس المجلس النيابي نبيه بري.

أما عن جنبلاط الإبن فلا يُخفي مقربون من التقدمي الاشتراكي بأن ابن الـ41 عاماً لم يكن راغباً في خوض غمار السياسة في لبنان، وأنّه كان يُفضّل متابعة أعماله الخاصة في الخارج، ما دفع حتّى بعض المقرّبين للهمس في المجالس الداخلية بأنّ "الصبي بدو يضيّع الزعامة"، وهذا ما دفع الأب إلى إحاطته بأكثر الأشخاص الذين يثق بهم مثل وائل أبو فاعور، فيما استبعد آخرين كثر يتحسّس من حين الى آخر نواياهم بتقسيم الزعامة الجنبلاطية على باقي دروز الجبل.

في المقابل، ومنذ إلباس جنبلاط الأب لتيمور عباءة الزعامة عام 2018 في الذكري الـ40 لرحيل كمال جنبلاط، وبحضور رئيس الحكومة آنذاك سعد الحريري، لم يُنظر إلى الشاب بنفس العين السياسية التي ترصد تقلّبات ابيه، وعلى رغم يفاعته السياسية إلّا أنّه استطاع نوعاً ما كسر نمطية الصورة، وقد بدا ذلك واضحاً منذ اليوم الأول على اعلان الثنائي الوطني دعم رئيس تيار المردة سليمان فرنجية للرئاسة عبر رفضه الوقوف بجانب بري حليف والده التاريخي، في حين اعتبر البعض بأّن ذلك تكتيكاً من الأب ليترك لنفسه هامشاً في التنقل بين الخيارات الرئاسية، مشدّدين على أنّه حتى بعد استقالته اليوم من رئاسة الحزب فلن يكون بعيداً عن أدق التفاصيل، "فمن شبَّ على شيء شاب عليه" عن قصد أو غير قصد.

وفي وقت سابق، دعا جنبلاط في بيان الاستقالة إلى مؤتمر عام انتخابي في 25 حزيران 2023، عملاً بأحكام دستور الحزب ونظامه الداخلي، مكلّفاً أمانة السرّ العامّة إتمام التحضيرات اللازمة وفق الأصول وبحسب الآليات المعتمدة، وإصدار التعاميم ذات الصلة بمواعيد قبول طلبات الترشيح ومهلة الانسحاب وكل الشروط المتعلقة بالعملية الانتخابية وإعداد لوائح أعضاء المؤتمر العام وتوجيه الدعوات إليهم.