ملامح المملكة اليوم تختلف بشكل كبير عن صورة المملكة قبل سنوات قليلة، هو تحوّل بدأ يتمدّد من يوميّات أهل البلاد في حياتهم العادية ليطال كافة القطاعات، من السّماح للمرأة بقيادة السيارة إلى تنظيم الفعاليات الفنية إلى الاستثمار في القطاع السياحي البيئي والأثري والفنّي، وليس انتهاءً بالإعمار وفق رؤية 2030. وما التوقّف عن الاستثمار في التّسلّح إلّا دليل على أنّ أبواب أخرى باتت هي الوجهة الأفضل لرأس المال المحلّي وحتّى الأجنبي.

يحلو للبعض في لبنان أن يبني القصور فوق الرّمال، ويتخيّل أنّ الأحلام ليست سوى امتداد للواقع، وعلى هذا الأساس يمكن تفسير كلّ ما يحصل في العالم بما يتّصل بآمال هذا البعض أو خوفه. وعلى هذا المنوال يصبح موقف المملكة العربية من الانتخابات الرئاسية بأن لا فيتو على أحد، إشارة إلى أنّ المقصود بأحد هو مرشح بعينه وغيره لا أحد.  

من المفيد التوقف عند قراءة للتطورات الأخيرة حيث تشي الأمور بأن السعودية انسحبت من ساحات المواجهة وقرّرت اعتماد سياسة النأي بالنفس وصفر مشاكل، وما حضور الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لقمة جدّة سوى للتأكيد على أنّ الرياض لم تكن مع الحرب الروسية ولا ضدها، وهي أكّدت على موقفها هذا في أكثر من مناسبة، بل وأنّها وقّعت مع كييف اتفاقية ومذكّرة تفاهم بقيمة تصل إلى 410 ملايين دولار في صورة مساعدات إنسانية ومشتقّات نفطية.

ملامح المملكة اليوم تختلف بشكل كبير عن صورة المملكة قبل سنوات قليلة، هو تحوّل بدأ يتمدّد من يوميّات أهل البلاد في حياتهم العادية ليطال كافة القطاعات، من السّماح للمرأة بقيادة السيارة إلى تنظيم الفعاليات الفنية إلى الاستثمار في القطاع السياحي البيئي والأثري والفنّي، وليس انتهاءً بالإعمار وفق رؤية 2030. وما التوقّف عن الاستثمار في التّسلّح إلّا دليل على أنّ أبواب أخرى باتت هي الوجهة الأفضل لرأس المال المحلّي وحتّى الأجنبي.

وفيما تنهمك السعودية في ورشتها الداخلية، وبإعادة ترتيب البيت الخليجي والعربي، بما يحقّق الاستقرار كونه العامل الأهم لتشجيع الاستثمارات والمستثمرين، بما يعنيه هذا الأمر للمملكة ورؤيتها أوّلاً وأخيراً، يلهث بعض أهل السلطة في لبنان للوقوع على أثر يثبّت أو ينفي أنّ رئاسة البلاد كانت حاضرة في كواليس قمة جدّة، بل يروّجون على أنّها كانت اللبنة الأولى في ما تم البناء عليه من تفاهمات عربية عربية، بل أنّهم يذهبون للحديث عن مباركة غربية كانت حاضرة حتى قبل الحوار العربي البيني، وعنوانها الأول لبنان ورئاسته.

 إلّا أنّ المملكة وبحسب أكثر من تصريح ومن مستويات مختلفة أكّدت أنّها لن تدخل في تسمية مرشحين، وهي كانت وقبل ما حصل من تفاهمات ولقاءات قد حدّدت مواصفات ترى فيها الصّفات المطلوبة للرئيس، واليوم مع النهج السعودي المتمثّل بما هو أقرب إلى الحياد وعدم الخوض في الوحول الخارجية، يأتي الموقف المعلن بحثّ كافة الأفرقاء في لبنان على "ضرورة الإسراع في انتخاب رئيس للجمهورية قادر على تحقيق ما يتطلّع إليه الشعب اللبناني".

"ولكن ما الذي يتطلع إليه الشعب اللبناني حقيقة؟" يسأل أحد المراقبين ممن عايشوا الانقسامات السياسية اللبنانية وتقاسم السلطة والنفوذ ما قبل اتفاق الطائف وما بعده وصولاً إلى اتفاق الدوحة. ويتوقّع المراقب أن الهمّ الخارجي لا يرتبط بالشخص بقدر ما يرتبط بالدّور، فهل الدّور المطلوب خارجياً هو فعلاً ما يتطلّع إليه أبناء هذا الوطن؟ ومن هذا السؤال يفتح الباب على مسائل عدّة تبدأ من استخراج النفط ولا تنتهي بسلاح المقاومة مقابل قضية النازحين السوريين ومكافحة الفساد لإطفاء الدين العام واستعادة الأموال المحولة إلى الخارج وصولاً إلى الإصلاح المالي والاقتصادي وتشجيع الاستثمار. وما بين حسابات الحقل الخارجي والبيدر الداخلي يبرز عنوان تحييد لبنان إسوة بالحياد السعودي.

فهل يمكن تحقيق مسألة تحييد هذا الوطن الصغير عن مصالح ما حوله والتّركيز على المصلحة الوطنية دون سواها؟ وهل من توافق على فصل هذه المصلحة العليا عن الالتزامات الجانبية المُعلن منها والمُضمر؟

نجحت المملكة العربية السعودية في رسم سياستها المستقبلية وفق ما سلف على أساس الحياد الذي يحقّق الاستقرار فالاستثمار. ولأن العين اللبنانية على المملكة لا بد من استلهام ما خلصت إليه والاقتداء به. وإلا فما معنى ما سمعناه من مباركات وثناء على عودة الودّ والتفاهم بين الدول العربية على أساس احترام سيادتها الوطنية وعدم التدخّل في شؤونها؟

لبنان الذي حمل طويلاً لواء القضايا العربية ليس بوارد التخلّي عنها ولا العمل ضدّها، ولكنّه أصبح في موقع من لا قدرة له على مساعدة غيره دون أن يدفع الثمن أضعافاً مضاعفة، آن الأوان لتكون مواقف لبنان منسجمة مع قدراته، ولا بأس بالاعتراف بالعجز شرط العمل لتجاوزه وتعويضه، أّمّا ادّعاء القوّة والقدرة على تغيير وجه المنطقة وحالها ونحن أعجز من تسديد فوائد الديون المترتبة علينا أو حتى إعطاء أصحاب الودائع في المصارف حقوقهم، وهذه أبسط القضايا.

بالأمس احتفل لبنان بعيد المقاومة والتحرير الذي تحقّق في العام 2000 بفعل الدماء التي بذلت وبعد طول عناء، ولكن وبعد مرور 23 عاماً على هذا الإنجاز الوطني الكبير لم ننجح في تحرير هذا الوطن من الفساد الذي افترس كيانه كمرض خبيث. صحيح أن تحرير الجنوب وأجزاء من البقاع الغربي أعاد بعض أبناء هذه المناطق إلى أرضهم إلّا أنّهم ما لبثوا أن تركوها بعدما انسدّت بوجوههم سبل العيش الكريم، بعدما نجح الفساد بضرب اقتصادهم وعملتهم وسرق مدخّراتهم ولقمة عيشهم.

هذا الواقع اليوم يتطلب حرب تحرير جديدة لا تميّز بين صديق وخصم، حرب لا تتعامل مع المرتكب بحسب جنسه أو دينه أو معتقده، حرب لا تتورّع عن محاسبة الكبار قبل الصغار والمسؤول قبل المواطن، حرب قد تتطلب تحييد لبنان عمّا حوله للانخراط في معركة داخلية لإصلاح البلاد بكل ما فيها.

فهل يتطلّع الشعب اللبناني إلى رئيس يحمل أقل من هذا المشروع؟ في الجواب على هذا السؤال يكون أوّل طريق الحلّ.