لكن كم تبلغ قيمة هذه المداخيل؟ عمليًا لا أحد يعلم مع توقّف وزارة المال عن نشر تقريرها الشهري الشهير عن الأداء المالي للدولة وذلك منذ نهاية العام 2021.

"أساس مداخيل الدوّلة تأتي من الضرائب"، هذا ما يقوله علم الاقتصاد حيث أنّ هذه الضرائب يجب أن تكفي لسدّ إنفاق الحكومة (خدمة الدين العام، وأجور الموظّفين... والإنفاق التشغّيلي عامة). وإذا ما أرادت الحكومة القيام بمشاريع استثمارية، فالعلم يقول إنّها تقترض الأموال في الأسواق من خلال إصدار سندات خزينة تسمح لها بتمويل مشاريعها على أن تكفي المداخيل المُستقبلية لهذه المشاريع لسدّ الدين القائم (دراسة الجدوى الإقتصادية). ويُمكن وضع ما تقدّم أعلاه ضمن معادلة حسابية تنصّ على:

الضرائب + إصدارات سندات خزينة = خدمة الدين العام + الإنفاق العام.

يُعدّ الإنتظام المالي عنصر جوهري في الحوكمة الرشيدة للدوّلة، فالاستراتيجيات المالية – الإقتصادية التي تعتمدها الحكومة في موازناتها هي مقياس فعّالية هذه الموازنات. هذا الإنتظام المالي يتأثّر بخدمة الدين العام (عبء الديون الموروثة من الحكومات السابقة) كما بالدورة الإقتصادية وبالتالي لا يُمكن تقييم فعّالية الموازنة بعجز الموازنة فقط، إذ قدّ تُسجّل الموازنة عجزًا وذلك بمعزلٍ عن خيارات الحكومة الهيكلية في الموازنة العامّة أي مستوى الضرائب ومستوى الإنفاق.

يشترط الإنتظام المالي للدولة أن يُسجّل الميزان الأوّلي فائضًا يفوق قيمة خدمة الدين العام تحت طائلة تعثّر الدولة. وتزيد خدمة الدين العام مع زيادة الدين العام وهو ما يكون بسبب تسجيل عجز أوّلي أو زيادة الفجوة بين سعر الفائدة الحقيقي ومعدّل النّمو الاقتصادي. والسياسات الإقتصادية بالتحديد موجودة لضمان الإنتظام المالي.

المُشكلة الرئيسية ظهرت في مالية لبنان العامة مع وصول الدين العام للدولة إلى أكثر من مئة مليار دولار أميركي (على سعر صرف 1500 ليرة لبنانية) منها ما يُقارب الخمسين مليار دولار أميركي مُقوّم بالدولار. وقد عمدت حكومة الرئيس حسان دياب في 7 أذار من العام 2020 إلى التوقّف العشوائي عن دفع دينها بالعملة الصعبة (ولاحقًا بالليرة اللبنانية) من دون أن يكون هناك أي مفاوضات مع المُقرضين خصوصاً القطاع المصرفي اللبناني الذي يحمل 85% من هذا الدين أي بمعنى آخر أنّ المودعين اللبنانيين هم من يحملون الـ 85% من الدين. تبرير حكومة الرئيس دياب آنذاك أنّ الخزينة العامة لم تعد قادرة على دفع خدمة الدين العام التي أصبحت تُغطّى من خلال الإستدانة. عمليًا ومنذ العام 2011، لم يستطع الميزان الأولي تسجيل فائض يفوق خدمة الدين العام، وبالتالي كان التعثّر مسألة وقت مع تسجيل عجز مزدوج (عجز موازنة + عجز الحساب الجاري).

وكنتيجة للتعثّر عن دفع الدين العام، تمّ عزل لبنان عن النظام المالي والمصرفي العالمي ولم يعد بقدرة لبنان الإستفادة من الأسواق المالية العالمية والمحلّية لتمويل حاجاته المالية.

الفوضى المالية التي حصلت وعدم تطبيق القوانين حرم خزينة الدولة من الكثير من الأموال، خصوصًا من العام 2019 إلى العام 2020. لكن مع بدء رفع الدولار الجمركي وحديثًا دولار الضريبة على القيمة المضافة، ومع قرار وزير المال إلزام التّجار دفع الرسوم والضرائب نقدًا وإلزام المواطنين دفع فواتير الكهرباء والإتصالات نقدًا (وربطها بمنصة صيرفة) بالإضافة إلى توقّف الدولة عن دفع خدمة الدين العام، جعل الدولة تُحقّق الكثير من المداخيل.

لكن كم تبلغ قيمة هذه المداخيل؟ عمليًا لا أحد يعلم مع توقّف وزارة المال عن نشر تقريرها الشهري الشهير عن الأداء المالي للدولة وذلك منذ نهاية العام 2021. آخر الأرقام التي تعود إلى كانون الأول 2021 حيث سجّلت الخزينة مداخيل بقيمة 20.3 تريليون ليرة لبنانية، وإنفاق بقيمة 18.1 تريليون ليرة لبنانية أي أن الفائض كان بقيمة 2.2 تريليون ليرة لبنانية مع دولار سوق موازية بقيمة 27500 ليرة لبنانية.

توقّعاتنا أنّ صافي المداخيل مع رفع الدولار الجمركي إلى سعر منصّة صيرفة، وسعر دولار الضريبة على القيمة المضافة وسعر الخدمات العامة (كهرباء وإتصالات...) جعل قيمة المداخيل بالليرة اللبنانية تتضاعف. فالكهرباء تُسعّر على صيرفة + 20% مع مداخيل بأكثر من مئة مليون دولار، والإتصالات على سعر منصة صيرفة مع مداخيل تفوق عشرات ملايين الدولارات شهريًا.

وبالتالي هناك فائض بدأ يتحقق في الموازنة ومن حقّ الشعب اللبناني معرفة هذه الأرقام بشكل دقيق، مع العلمأنّ الإستمرار في زيادة الضرائب والرسوم والتعريفات للخدمات العامة (على مثال الكهرباء التي يفوق تسعيرها السوق السوداء) سيؤدّي حكمًا إلى خنق الاقتصاد بشكل مُربك خصوصاً مع غياب الإصلاحات.

كم تبلغ المداخيل وأين تُنفق؟ سؤال يتوجّب على الحكومة الإجابة عليه عبر نشرها الأداء المالي الشهري الذي كانت تنشره على بوابة وزارة المال الإلكترونية.

المعروف اقتصادياً أنّ دين اليوم هو ضرائب الغد، وبالتالي فإنّ نكران الدولة لدينها للمصارف ومصرف لبنان هو ضربة لأموال المودعين بالدرجة الأولى. أفلا يتوجّب اليوم مع عودة الفائض إلى الخزينة العامة البدء بطرح خطّة تقوم على كيفية تسديد هذا الدين بدلًا من تحميله مرّتين للشعب: المرّة الأولى من خلال شطب الودائع والمرّة الثانية من خلال رفع الضرائب والرسوم؟

الإصلاحات الهيكلية في الموازنة لا تقف فقط عند مستوى الإيرادات والإنفاق، بل تطال أيضاً نوعية الإنفاق الذي يجب أن يذهب بإتجاه مصلحة المواطنين وإستدامة المالية العامة. هذا الأمر يفرض على الحكومة الإستفادة من الوقت الضائع حالياً من أجل وضع خطّة لماليتها بعيدًا عن الشعبوية وبعيدًا عن تطيير الودائع، والأخذ بيعين الإعتبار ترشيق القطاع العام من ناحية مؤسساته وموظّفيه ولكن أيضًا طريقة الإنفاق. كل هذا يؤدّي إلى إنتظام مالي وإستدامة هذا الإنتظام الذي هو ضرورة في المالية العامّة لأنه يؤدّي إلى توازن في الحسابات العامة وفي ميزان المدفوعات، ويزيد الثقة بالإقتصاد ويُحفّز الإستثمارات الخارجية وإستطرادًا يدعم العملة الوطنية.

حرق الوقت مُكلف! الظاهر من المعطيات على الأرض أنّ المواطن اللبناني هو وحده من يدفع فاتورة حرق الوقت من ودائعه، ومن أجره، ومن صحّته، ومن طبابته، ومن أسلوب حياته الذي تردّى. ألم يحن الوقت للقيام بإصلاحات جدّية توقف هذا النزف رأفة بالمواطن والوطن؟

وكما يقول المثل الفرنسي:" لم نقم بأي شيء للوطن إذا لم نفعل كل شيء من أجله".