داود ابراهيم

لافتة كانت تسريبة ما أسرت به السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا لرئيس البرلمان اللبناني نبيه بري فيما كانا يتمشيان في البهو الواسع في عين التينة مقر الرئاسة الثانية، حين سألها إن كانت واشنطن ضد انتخاب سليمان فرنجية وكان جوابها على ما قيل: "ولماذا نريد أن نكون ضده وماذا إذا انتخب؟" وفيما لم نقع على النص الحرفي لكلام شيا بلُغتها الأمّ، عملت بعض المواقع على ترجمة الكلام إلى اللغة الإنكليزية. والمشكلة ليست باللغة بقدر ما هي بالاحتفاء بهذا الكلام من أنصار "الثنائي الوطني" وهي التسمية المعتمدة لتوصيف الثنائي الشيعي الذي يمثل بري أحد طرفيه، فيما الطرف الآخر هو "حزب الله" الذي يجاهر بعدائه للأميركي.

صحيح أن لبري مقارباته المختلفة للتعامل مع الغرب ودول الخليج عن تلك التي يعتمدها حزب الله، إلا أن هذا الموقف المنسوب لشيا كان له وقع السحر على أتباع الثنائي بجناحيه. ورصدت قبل وبعد كلام شيا مقالات وتحليلات توحي وكأن موضوع الانتخابات الرئاسية بطريقه إلى الحل بعد موافقة الخارج على انتخاب فرنجية وموافقة الثنائي على حكومة برئاسة نواف سلام كما يشتهي الخارج. يبدو غريباً التهليل لكلام سفيرة عن عدم ممانعتها وصول مرشح غير معلن إلى سدة الرئاسة في حال انتخابه، والقول أن الخارج الذي تمثله السفيرة اختار رئيساً للحكومة في مقابل رئيس الجمهورية.

لم يَطِلْ الأمر بعد كلام شيا، حتى أعلن بري ولأول مرة بشكل صريح في حديث صحفي دعم الثنائي لفرنجية ورفضه ترشيح قائد الجيش العماد جوزيف عون كونه بحاجة الى تعديل دستوري، وهو أمر صعب التحقق إن لم نقل باستحالته في الظروف الراهنة. أما وقد بات لحزب الله وبري مرشحهما المعلن، وإصرارهما عليه دون سواه والتصرف على أساس أنهما من يملك اختيار رئيس الجمهورية ومن يحدد مواصفاته، وإذا أراد الآخرون تجنب استمرار الفراغ في سدة الرئاسة فما عليهم سوى القبول بما يقدمه الثنائي لهم، وإلّا "فالبلد ماشي ولا يهمّك". الحكومة المستقيلة تجتمع، ولو كانت اجتماعاتها موضع استنكار ورفض.

قيل أن حزب الله انتصر بوصول العماد ميشال عون إلى سدة الرئاسة، فيما تصرّف بري على أنه خسر المعركة، ورغم أن عون حينها كان يمثل احد أقوى الطرفين على الساحة المسيحية، عمل بري لكسب الحرب على عون، فوقف حزب الله بينهما متفرجاً. اليوم يجتمع الثنائي على مرشح يقف أغلبية الآخرين ضدهم، فهل يراهن من يرفع لواء السيادة وعدم تدخل الخارج على مَونة خارجية للقبول بفرنجية. أَوَليسَ في الامر انتقاص وخسارة؟

البلاد تسير بخطى متسارعة نحو مأزق جديد يتمثل بشغور موقع حاكم مصرف لبنان مع انتهاء ولاية رياض سلامة في الأول من آب المقبل. والإتيان بحاكم جديد يتطلب وجود رئيس للجمهورية، والرئيس جاهز إذا وافق الآخرون على ما يعرضه الثنائي. تلك هي المعادلة المطروحة والتي يُعبّر عنها أصحابها بثقة وقوّة.

ولكن، هل وصول فرنجية إلى سدة الرئاسة هو انتصار؟ وأي نوع من الانتصارات هذا؟ هل خَطرَ ببال أحد ما تحتاجه البلاد فعلاً في مواقع المسؤولية من مواصفات وكفاءات؟ هل تعيش البلاد ظروفاً تسمح بإدارتها بمنطق "بيزنس آز يوجوال"؟ هل يمكن الرهان أنه بوصول فرنجية ستكون البلاد أمام ورشة إصلاح حقيقية وسياسات اقتصادية مالية للنهوض بالبلاد من أزماتها؟ هل يظن أحدهم أن العهد الرئاسي أيا يكن شاغل القصر سيشهد تحقيق الرخاء والازدهار، فيحتفل الرئيس بوصوله إلى موقعه؟ هل من المفيد التذكير بما بلَغه سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية وما أصبح عليه الدولار الجمركي وتسعير البضائع بالدولار أو ما يوازي سعر الصرف؟ هل نجح من سينتخب رئيساً للبلاد، ونعني هنا مجلس النواب ككل، بإعادة الودائع للمودعين؟ قد يكون المطلب تعجيزياً رغم أحقيته، ماذا لو سألنا أين أصبحت قوانين استعادة الأموال المحوّلة إلى الخارج والكابيتال كونترول؟ ماذا عن مستقبل النفط والغاز، هل سيكون رئيس الجمهورية معنياً به فيما كان فرنجية أنكر وجوده سابقاً؟

ليس في هذه الأسئلة وغيرها الكثير، لا تصويب شخصي على أحد ولا توصيفات مسيئة، إنما الغاية منها السؤال عن طبيعة الانتصار الذي سيتحقق بوصول فرنجية إلى سدة الرئاسة، وهو الذي حتى اللحظة تعارضه أكثرية المكوّن الذي ينتمي إليه، والذي يعتبر أن رئاسة الجمهورية هي الموقع الذي يعود إليه وفق التقسيم الطائفي في البلاد.

أي انتصار هذا ونحن نشهد حجم الانهيار الذي أصاب عملتنا الوطنية والحاجة التي تدفع بالبعض إلى الانتحار في ظل انسداد أفق الهجرة. هاجر أطباء ومهندسون وأصحاب اختصاصات مختلفة إلى وظائف كانت بانتظارهم في بلدان تقدّر الخبرات. قطاعات بأكملها هاجر العاملون فيها من أصحاب المهارات. أجهزة أمنية سمحت لعناصرها بالعمل الإضافي في مهن أخرى لتحصيل ما يكفيهم من قوت. فاتورة الكهرباء التي تنتجها المولدات تعادل الأجر الشهري لموظف متوسط الدخل. هل من ضرورة للحديث عن الواقع المعيشي حقاً، وهل من واجب لإعطاء الأمثلة؟

الانتصار الوحيد الذي ينتظره المواطن اللبناني اليوم يتمثل بفرصة عمل بأجر بالدولار الأميركي، أو الحصول على فيزا تتيح له ترك الجَمَل بما حَمل، من دون تردد ومن دون حتى كلمة وداع لمن سيتركه خلفه لأنه على يقين أنه سيلحق به حين تتوفر له الظروف.

أيظن من يراهن على وصول مرشحه إلى سدة الرئاسة أنه سينجح في إعادة عقارب الساعة إلى حيث كان سعر الدولار 1500 ليرة لبنانية؟ أم أنه سيطلق عجلة الإنتاج والصناعة الوطنية من جديد؟

هو انتصار فعلا، لكنه سيأتي مع المزيد من الضرائب والمزيد من الانهيار والمزيد من الفقر والتفلّت الأمني.... فهنيئاً للمنتصرين.