تجدد الاشتباكات في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين جنوب شرق مدينة صيدا قبل أيام، يستحضر مسألة السلاح المتفلّت إلى الواجهة. الاقتتال بين الفصائل الفلسطينية داخل المخيمات والتي تتجدد لأسباب مختلفة مهددة الاستقرار داخل المخيمات ومحيطها، حصد العديد من الضحايا على مدى سنوات بما يعيد إلى الأذهان صُوَر الحرب الأهلية التي كان اللاجئ الفلسطيني مشاركاً فيها، مع ما لهذه المشاركة من آثار لا تزال حاضرة عند الحديث عن القضية الفلسطينية.
نحو 380 ألف لاجئ فلسطيني بحسب الأونروا، يتوزع 80 في المئة منهم على 12 مخيماً في لبنان بينما تتوزع الـ 20 في المئة المتبقية على المدن الكبرى. أبنية عشوائية هشّة، بعضها بأسقف من صفيح وبعضها أعمدة بلا جدران، بيوت فوق بيوت، صغيرة بأغلبها ولكنها تتسع لعائلات كبيرة متوسط عدد أفرادها 6 أشخاص. ألوان متنافرة يطغى عليها لون الإسمنت الذي لم يعرف طلاءً، أزقة ضيقة تحجب السماء عنها الأسلاك الكهربائية، يحار البعض وهو يتجوّل فيها إن كانت تلك الوجوه التي تطالعه لأشخاص خلف النوافذ أو لصور شباب قضوا بشكل أو بآخر.
رائحة البؤس الفواحة في أزقة المخيم تزداد كلما غُصت نحو الداخل. هي تشبه رائحة الحريق الهامد الذي يتجدد بين الفينة والأخرى، ومع كل تجديد يأكل الكثير حتى "سمعة" القادة الذين طبعت صورهم وكتبت شعاراتهم على جدران المخيمات إلى جانب صُور المسجد الأقصى.
وتختلف النظرة إلى اللاجئ الفلسطيني بين لبناني وآخر، فمنهم من ينظر إليه بعين المظلومية والعطف من دون أن ينسى تجاوزاته على السيادة اللبنانية واللبنانيين، وآخر يعتبره خطراً مع وقف التنفيذ، إذ يعجز حتى بعد مرور عقود من الزمن عن الخروج من الذكرى السيئة التي جمعته بالفلسطيني أيام الإقتتال الداخلي خلال الحرب الأهلية، لا بل يعتبر أنه شرارة تلك الحرب، والتي كانت السبب في تهجيره من أرضه، ولا يكتفي بذلك بل ينقل الذكرى للأولاد والأحفاد.
واللافت أن كلا النظرتين إلى الفلسطيني مُضرّة به، فالأولى نظرة تعاطفية انطلاقاً من تضامنها مع القضية الفلسطينية، والثانية مبنية على ذكرى سيئة تصل إلى درجة الحقد تدفع للمطالبة بتجريده من سلاحه، حتى حق التملك لم يعط له بحجّة التوطين. وفيما لا تزال قضية حق العودة عالقة، ينتظر اللاجئون فرصة للهجرة بحثا عن ظروف معيشية أفضل.
الحديث عن حق العودة والربط بينه وبين سلاح الفصائل داخل المخيمات لم يعد يجد صدى تبريرياً، لأن السلاح المتفلّت تحول إلى سرطان داخل المخيمات وأحيانا خارجه ، الذي ينهش جسدها ويقدّمها بأسوأ الصُور التي تشكل هاجساً للمضيف وتهديد للمقيمين داخل المخيمات أنفسهم. منذ تاريخ الاجتياح الإسرائيلي للبنان وما أعقبه، انتهج الفلسطيني سلوكاً وبرر لنفسه حمل السلاح مجدداً اذ كانت وجهته في مجمل الأحيان داخلية لتعذر وصوله إلى الحدود للقيام بأعمال ضد الاحتلال. وبعض اللاجئين تأثر بالدعوات السلفية والتكفيرية منها، فنشأت داخل المخيمات فصائل جديدة بخلفيات عقائدية متطرفة، بدأت تصارع الفصائل الأخرى على النفوذ. ويتحول هذا الصراع أحيانا إلى مواجهات مسلحة. كما أن بعض هذه الفصائل كان لها دورها في الحرب السورية حيث شارك العديد من أبناء المخيمات في المعارك، حتى أن بعضهم نفذ عمليات انتحارية في لبنان وسوريا.
هذا الواقع ينطلق من الإشكال الأخير الذي وقع في عين الحلوة الذي يستحوذ على المرتبة الأولى من حيث الكثافة السكانية، كما أنه الأكثر خطورة لجهة السلاح المتفلّت. ومع كل إشكال داخل المخيم يعاد تسليط الضوء على هذه الأزمة المستعصية، فالمخيم القائم على مساحة 400 الف متر2 يكاد يكون أكبر بؤر الفلتان في لبنان، إذ يقطنه أكثر من ثلث اللاجئين الفلسطينيين (أكثر من ثلثهم بلا عمل)، وتتولى المخيمات الفلسطينية في لبنان “أمنها الذاتي” ولا تدخلها القوى الامنية اللبنانية بموجب اتفاق ضمني مع الفصائل الفلسطينية. وهو ما أدى إلى تحول المخيم إلى ملاذ للمطلوبين للعدالة. وترتفع حول المخيم أسوار عالية وأبراج مراقبة تابعة للجيش اللبناني.
فإن كان يمكن تفهّم تطبيق الأمن الذاتي داخل المخيم، كذلك يبدو غريباً بل ونافراً وجود قواعد عسكرية فلسطينية في مخالفة لمنطق السيادة اللبنانية. أهم هذه القواعد تلك العائدة لفتح الإنتفاضة وللجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أو ما يعرف بقوات أحمد جبريل، وتتوزع هذه القواعد في قوسايا في البقاع عند سلسلة جبال لبنان الشرقية بالقرب من الحدود اللبنانية السورية، ويعود تاريخ إنشاء هذه القاعدة كما القواعد الأخرى إلى العام 1978، وهي تتضمن أنفاقاً عميقة وسبق أن تعرّضت لضربات إسرائيلية جوية ألحقت بها أضراراً بالغة. وهي مجهزة براجمات صواريخ ومدفعية ثقيلة. وليس بعيداً عنها توجد قاعدة السلطان يعقوب في البقاع الغربي وهي تضم شبكة أنفاق وملاجئ، وهي مجهزة عسكرياً بشكل كبير كما تفيد مصادر عسكرية. أمّا قاعدة تلال الناعمة شرق بيروت، فهي تَحضر بين الحين والآخر من بوابة بعض الإشكالات مع المحيط كما قاعدتي قوسايا وقاعدة السلطان يعقوب. وهي قاعدة محصنة بشكل كبير وتم تشييدها بين الأودية وفي كهوف المنطقة.
تجدر الإشارة إلى أن طاولة الحوار الوطنيّ اللبناني في العام 2006 أجمعت على نزع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات ومعالجته داخلها، والاعتراف بالحقوق الانسانية والاجتماعية، وتأمين تحسين أوضاع اللاجئين، وتوفير مقوّمات العيش بكرامة... إلا أن هذا الإجماع لم تتم ترجمته خصوصاً في ما يتعلق بالسلاح خارج المخيمات والذي رفضته قيادات فلسطينية، ومنها أمين سر حركة فتح الانتفاضة العقيد سعيد موسى (أبو موسى) الذي أعلن في العام 2010 وخلال زيارة قام بها إلى لبنان، رفضه إلغاء وجود السلاح الفلسطيني بالمطلق خارج المخيمات الفلسطينية في لبنان، كما رفض إدخال هذا السلاح إلى داخل المخيمات.
وهو ما استدعى رداً من الحكومة اللبنانية في جلسة عقدتها في 19 كانون الثاني 2010، حيث قال وزير الإعلام طارق متري "إن مجلس الوزراء أكد أن السيادة اللبنانية ليست موضوعا للتفاوض، وشدّد على تنفيذ مقررات هيئة الحوار الوطني الخاصة بإنهاء وجود السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، ومعالجة قضايا الامن والسلاح داخلها".
يبقى ورغم كل ما سبق موضوع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات من دون معالجة رغم توافق الفرقاء اللبنانيين على ضرورة نزعه والعمل على معالجة موضوع السلاح داخل المخيمات بالتزامن مع تقديمات إنسانية. يبدو موضوع السلاح رهن حلّ القضية الفلسطينية وحق العودة. وبالانتظار يستمر النزف الحاصل وتعداد ضحايا المواجهات ووجهة استخدام السلاح ومن يسيطر على القرار ومن يملك النفوذ.