داود ابراهيم

في لبنان يحضر الحديث عن الأعداد كلما شعر طرف ما بضيق من الطرف الآخر. وغالبا ما يستحضر هذا الحديث الطرف المنتفخ. حين يكون في الأمر منافسة على الشعبية بين أطراف المكوّن الطائفي نفسه، تقف المكونات الأخرى موقف المتفرج أو المراهن على ميل الطرف الأكبر إليه. أمّا حين يكون الحديث من ممثل لمكوّن عن مكوّن آخر فتتحول المسألة إلى أزمة طائفية، تنسف كل ما يمكن أن يكون تم العمل عليه لردم الهوّة الفاصلة بين الطائفية والمواطنة. ويستحضر الأمر هواجس التهجير والتغيير الديموغرافي والحروب التي لا تزال حاضرة في وجدان الجماعات اللبنانية

إنه صراع الأكثريات والأقليات داخل الوطن، وهي تتغير إذا ما قيست بالإقليم والعالم. الأكثرية هنا لا تعني بالضرورة أنها أكثرية على مستوى المنطقة. والخوف من الاخر في الداخل أو تخويفه يصبح خوفاً من عامل خارجي أو استحضاراً له.

فجأة تحضر أدبيات الحرب الأهلية، تلك الحرب التي سبقت اتفاق الطائف والذي انتهى بنزع العديد من صلاحيات رئيس الجمهورية ونقلها إلى مجلس الوزراء مجتمعاً بموجب النص، وإلى رئيس الحكومة بالممارسة. ومع سجن قائد القوات اللبنانية سمير جعجع ونفي العماد ميشال عون وما أعقب الأمر من حالة اصطلح على تسميتها بالإحباط المسيحي، وبروز ظاهرة حكم الترويكا كان واضحاً أن المسيحيين خسروا الحرب وانتصر خيار على خيار. وانتهت صيغة "حكم الموارنة" بحسب أدبيات البعض. وكان زمن الوصاية السورية على لبنان والتسمية اعتمدها حلفاء سوريا نفسها.

صحيح أن اتفاق الطائف قال بالمناصفة بين المسلمين والمسيحيين، بغض النظر عن تعدادهم الحقيقي، وهي مناصفة بالتمثيل النيابي مع الحفاظ على التوزيع الطائفي لكل من رئاسة الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة. ولكن القوانين الانتخابية سمحت للمسلمين باختيار النواب المسيحيين في بعض الدوائر. وظل الأمر هكذا حتى اغتيال الرئيس رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري من لبنان، وعودة عون من منفاه والعفو عن جعجع، وصولاً إلى إقرار قانون بعد جهد جهيد يعيد للمسيحيين قدرتهم على اختيار أغلب ممثليهم في البرلمان.

ليس المكان للخوض في تسمية المعرقلين أو الداعمين، من حقّق هذا الأمر ومن استفاد منه ومن خسر سطوته. المسألة تكمن في صحّة التمثيل الطائفي رغم اعتلال المسألة من ناحية حجم التمثيل. وهي قضية تثار كلما اشتهى أحدهم الانتقاص من خصمه في السياسة. ولا بأس من الإقرار بوجود خلل في هذا الأمر فكيف يمكن أن تقول مقدمة الدستور أن المواطنين سواسية في الحقوق والواجبات فيما يتمثل نحو 48 ألف مواطن بنائب واحد يقابلهم بضعة مئات يتمثلون بنائب أيضاً.

يتحسّس المسيحيون في لبنان من مسألة الأعداد ويتخوفون من مساعي غربية لتوطين اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين بما يهدد التوزيع الديموغرافي في البلاد وتغيير هويتها.

ولا يبدو الشيعة بعيدين عن هذ الواقع فهم يخشون من توطين وتجنيس الفلسطينيين والسوريين وهؤلاء بغالبيتهم من السنّة، ما يترك تداعياته على التوازن الشيعي السني. هذا التوازن الذي كان الدافع خلف الحديث عن مثالثة في النظام اللبناني والتي انتقلت من الرئاسات الثلاث إلى ما اصطلح على تسميته بالتوقيع الثالث ويقصد به وزير المالية الذي قيل أنه تم التوافق عليه خلال مداولات الطائف. وبالممارسة تحوّل هذا التوقيع إلى سلطة قائمة بذاتها بحيث أصبحت القرارات المالية في السلطة التنفيذية بيد الطائفة الشيعية.

الحديث الذي أدلى به رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي رداً على سؤال خلال إطلالة تلفزيونية عن أعداد المسيحيين في لبنان، وبحسب ما زُعم أنه تقرير وصل إلى البطريركية المارونية وأثار موجة من ردود الفعل المضاعفة كون صَدرَ عن رئيس كان على خلاف مع رئيس الجمهورية على الصلاحيات المتصلة بتشكيل الحكومة، وأدى الأمر إلى انتهاء ولاية الرئيس من دون التوافق على حكومة، وبالتالي بقيت حكومة تصريف الأعمال التي بدل وأن تمارس صلاحياتها بالمعنى الضيق، استمرت في الاجتماع، بل وورثت صلاحيات رئاسة الجمهورية. وهو الأمر الذي أثار حفيظة أعلى سلطة مارونية في البلاد.

الغمز من قناة العدد عشية انتخاب رئيس للجمهورية يريده البعض ممثلا لطائفته فيما يرفع البعض الآخر شعار أن يكون توافقياً. أي أن تمثيله ليس شرطاً بعكس واقع الحال عند الرئاستين الثانية والثالثة. كما أن التوافق هنا يتطلب مباركة خارجية وليس داخلية فقط. وهكذا يدفع البعض المسيحيين إلى الشعور بأنهم خسروا قرارهم في اختيار من يكون رئيسهم وإن اعترضوا لا بأس بتذكيرهم بمسألة الأعداد للتهويل عليهم ودفعهم إلى القبول بما يُرسم لهم.

طوائف لبنان هي: الموارنة، السنة، الشيعة، الدروز، الروم الأرثوذكس، الروم الكاثوليك، الارمن الكاثوليك والارثوذكس، السريان الكاثوليك والارثوذكس، الكلدان، اللاتين، الانجيليون، العلويون، الاسماعيليون، الاقباط الكاثوليك والارثوذكس، الاشوريون، اليهود أو الطائفة الإسرائيلية.

هذه الطوائف بين أقليات وأكثريات تشكّل هذا الوطن وتتعايش على أرضه وعندما تضيق بها السبل تنقلب ضد بعضها البعض. وكما يقول المثل الشعبي "القلّة بتولّد النقار"، والقلة لا يقصد بها العدد إنما الحاجة أو العوز. فهل يمكن تخيل حجم العوز الذي تعيشه البلاد، بالتالي مكوناتها خاصة مع تراجع قيمة الليرة اللبنانية إلى أدنى مستوياتها مقابل الدولار الأميركي. والحاجة إلى تثبيت الحضور والمشاركة في صنع القرار أو لإثبات وجود في زمن يعاني الجميع فيه من الخوف على الحاضر والمستقبل وينهل من ماضٍ كان يتمتع فيه بسلطة ورخاء اجتماعي.

يحضر الحديث عن الدولة المدنية والمواطنة كلما خف رابط المعتقد كجواز مرور إلى الدولة، فهل نجحت الطوائف اللبنانية في طمأنة رعاياها إلى مستقبلهم في النظام المدني، وهل عملت على ذلك؟ هل ساهمت الأكثريات في طمأنة الأقليات إلى مستقبلها في حال خلعت عنها عباءتها الدينية أم أنها أوحت بأن أكثريتها العددية هي الدافع وراء دعواتها لإلغاء الطائفية السياسية؟ هل يجوز الرهان على أحزاب طائفية لإنتاج مجتمع غير طائفي؟ ماذا عن الأحزاب الوطنية وما هو حجم تمثيلها للطوائف المختلفة، وهل يمكن اعتبارها الرافعة لعلمنة النظام؟ هل من أمل بوطن لا مصلحة وطنية عليا بإجماع مواطنيه. فلكل جماعة مكوّنة لهذا الوطن سلّم أولويات ومصالح وعلاقات خارجية.

الحديث عن تعداد الطوائف في ظلّ واقع طارد للشباب، في ظل الظروف التي تدفع بالجميع للهجرة، بالتزامن مع شعارات تدعو للامركزية موسعة يذهب معها البعض إلى حدود رفع شعارات الفيدرالية، جهات تتبادل الاتهامات بالعزلة أو بفائض القوة. الخوف من الذوبان أو الطمع في السيطرة والحدّ من الحضور حتى الإلغاء. اتهامات ومخاوف يعيشها المواطن ويسعّرها المسؤول.