بعد يومين من مناقشات المساءلة النيابية للحكومة اللبنانية، بما فيها من معلوم ومحسوب مسبقاً، يمكن القول إن إضافة سياسية واحدة تمّ تسجيلها، هي تكريس الأكثرية اللبنانية المطالِبة بنزع سلاح "حزب الله"، سواء باعتماد عبارة "النزع" أو توريات لفظية أخرى كـ "تسليم" أو "سحب" أو "جمع" أو "حصر" السلاح، وكلها عبارات تلتقي على هدف واحد، والتمييز بينها هو مجرد لعبة صياغات.
وفي هذه الإضافة السياسية يجدر التوقف عند إقدام الرئيس نبيه بري على فتح النقاش إعلامياً، مع علمه المسبق بأن معظم الكتل النيابية والنواب المستقلين والتغييريين وكذلك بعض المعارضين يجمعهم قاسم مشترك هو الخلاص من سلاح "الحزب" كشرط لازم وضروري لإعادة بناء الدولة واستعادة ثقة العرب والعالم.
ولعلّ الرئيس بري، بحسب تقدير المراقبين، تعمّد وضع سلاح "الحزب" على مشرحة الأكثرية النيابية، كرسالة أو كنصيحة لترشيد الغلاة في صفوف قيادته، بعدما عانى من تصلّبهم تجاه المبادرة الأميركية التي قدّمها توماس برّاك، ومن شروطهم والضمانات التي وضعوها أمام "الثلاثية الرئاسية" ولجنتها الاستشارية، قافزاً فوق المهلة المحددة ببضعة أشهر لنزع سلاحه، ومهمِّشاً الجدولة الزمنية للتنفيذ.
ولا يخفى ما اعترى احتفالات عاشوراء من مؤشرات سلبية ضد "حركة أمل" وضد بري "الأخ الأكبر" شخصياً، على خلفية اتهامه بالتساهل مع "ورقة" برّاك وبقبوله مبدأ تخلّي "الحزب" عن سلاحه، فضلاً عن التهديد الدائم لكل معارض شيعي من أهل الكلمة والصوت والثقافة.
وقد لجأ أكثر من مراقب إلى تشبيه موقف نبيه بري من السلاح في لبنان بموقف وليد جنبلاط من الوضع الدموي والسلاح في السويداء، لجهة العقلانية والتهدئة، والانضواء في كنف الدولة هنا وهناك.
والواضح أن رؤوساً باردة داخل الطائفتين الشيعية والدرزية، تسعى إلى تخليصهما من المصير المجهول تحت تصادم الأجندات الإقليمية والدولية.
ويرى عقلاء الشيعة أن تشدد "حزب الله" يؤدّي إلى عزل الطائفة جغرافياً وعسكرياً وسياسياً واجتماعياُ ضمن مثلّث خانق بين إسرائيل وسوريا وأكثرية لبنانية سياسية وشعبية.
ويقتنع هؤلاء بأن سلاح "الحزب" لم يحمِ، وماله لم يبنِ، وبأن الدولة هي وحدها تحمي الديار وتُعيد الإعمار، عبر امتلاكها حصرية السلاح والقرار، ثمّ المال والمساعدات، بدعم عربي ودولي.
كما يدركون أن قرار مصرف لبنان حظر التعامل مع "القرض الحسن" ليس معزولاً عن السياق العام لحلّ الأزمة اللبنانية، عبر تفكيك البنيان الثلاثي لـ "الحزب"، السلاح والمال وعقيدة "الفقيه" الإيرانية.
ولدى حُكَماء الشيعة أيضاً قراءة واقعية لمتغيّرات المنطقة نحو انتهاء عصر المليشيات المسلّحة لمصلحة تركيز الدول الوطنية، بدءاً من "حزب العمّال الكردستاني" ومجموعات جنوب سوريّا، مروراً بتشكيلات "الحشد الشعبي" في العراق، وصولاً في مرحلة لاحقة إلى التنظيم "الحوثي" في اليمن، واستطراداً إلى إيران و"حرسها الثوري". ولم يعُد في استطاعة طهران إعادة إحياء وكلائها أو أذرعها في الدول العربية الأربع التي استباحتها خلال مرحلة صعودها قبل عقدَين من الزمن.
صحيح أن هناك تنظيمات متطرّفة لا تزال متحرّكة في سوريا، وتهدّد الأقليات الدينية والاجتماعية، لكنّها محكومة بالانقباض ثم الانقراض مع تمكين مرجعية الدولة وتثبيتها تحت رعاية أميركية وأوروبية وعربية مباشرة.
ومن باب قِصَر النظر احتماءُ هذه الأقليات بسلاحها كوسيلة وحيدة كافية وشافية للبقاء ضمن محيط عدائي.
وليس النموذج الذي يقّدمه "حزب الله" كقوّة مسلّحة صافية تحميه من إسرائيل جنوباً ومن التنظيمات المتطرّفة شرقاً وشمالاً ومن الأكثرية اللبنانية داخلياً سوى وهمٍ سقط أولاً في جنوب لبنان، ومرشّحٍ للسقوط في شرقه وفي داخله.
لقد آن الأوان للتخلّي عن الاعتداد بالسلاح غير الشرعي للحماية والبقاء والبناء والاستمرار والاستقرار، وللاقتناع العميق بأن الدولة وحدها تحمي وتبني.
ويبقى الأمل في أن الرسالة السياسية والشعبية التي صدرت عن مجلس النواب اللبناني قد دفعت "حزب الله" إلى الأخذ بنصائح عقلاء الطائفة، أسوةً بنهج عقلاء الطوائف الأخرى.
فلنتخيّل للحظة مصير هذه الطوائف - الأقليات المستقوية بسلاحها، والمستعدية محيطَها، والمستجدية الإسنادَ المنتظر من الماورائيات والغَيب.
يعلّمنا التاريخ أن الأنواع التي تنقرض هي تلك التي تعتمد فقط فلسفة القوة العارية، ولا تعرف كيف تتأقلم مع المناخ الطبيعي السائد في بيئتها والجوار.