أعادت حبرية البابا فرنسيس، التي دامت 12 عامًا، تشكيل الهوية العالمية للكنيسة الكاثوليكية، مازجةً بين الشمْل الجذري والتوتر العقائديّ. وفاته في الحادي والعشرين من هذا الشهر تنهي حقبة تميزت بإصلاحات جريئة وخيارات مستقطبة - تاركة كنيسة منقسمة ولكنْ متجددة، عند مفترق طرق تاريخي.

داعية سلام وسط الحروب

أعادت دبلوماسية فرنسيس التي لا هوادة فيها تعريف دور البابوية على المسرح العالمي. من تقبيل أقدام قادة جنوب السودان في عام 2019 (على غرار تقبيل المسيح أقدام الرسل) إلى إدانته الشديدة للأسلحة النووية في هيروشيما، صوّر البابا فرنسيس الكنيسة كوسيط في عصر الصراع. ومع ذلك، غالبًا ما قوبل تضرُّعُه من أجل السلام - سواء في أوكرانيا أو غزة - باللامبالاة الجيوسياسية. كانت بركته الأخيرة "إلى المدينة والعالم" بمثابة توبيخ وداعي: "توقفوا عن استعمار الناس بالأسلحة".

مفارقة الشمول

دافع فرنسيس عن المهمشين، عن المهاجرين والفقراء والكاثوليك من مجتمع الميم – معلنًا في عام 2013: "من أنا لأحاكم؟". لكن انفتاحه الرعوي تعارض مع تصلُّب المؤسسة الكنسية. وفي حين تمكّن من تليين لهجة الكنيسة بشأن الطلاق والاتحادات المدنية، إلا أن الحواجز العقائدية بشأن رسامة المرأة وزواج المثليين ظلت ثابتة. أشاد التقدميون برؤيته فيما اتهمه التقليديون، بخاصة في أوروبا والولايات المتحدة، بالهرطقة.

الإصلاح في مواجهة التقليد

سعى المجمع الذي دعا إليه البابا فرنسيس عن المجمعيّة (2021-2028) إلى إضفاء الديمقراطية على إدارة الكنيسة، وتمكين العلمانيين والأساقفة على حد سواء، للابتعاد عن مركزية القرار. ومع ذلك، أدى قرار تمديد المجمع ثلاث سنوات في عام 2025 إلى تعميق الانقسامات. اعترض المحافظون على المناقشات حول ترفيع النساء إلى درجة الشمّاسية وإدماج مجتمع الميم، بينما طالب الإصلاحيون بسرعة أكبر في عملية التغيير.

حتى الحملات الساعية إلى الإصلاح المالي التي تستهدف فساد أجهزة في الفاتيكان واجهت معارضة متجذّرة.

المد المتصاعد للجنوب العالمي

قد يكون أعظم إرث للبابا فرنسيس ديمومة، هو التغيير الديموغرافي. هكذا، أصبح 80% من أعضاء مجمع الكرادلة الذي ينتخب البابا متحدّرين من إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. يضمن هذا التحول أن يركّز المجمع الانتخابي المقبل على مشاكل الفقر والعدالة في مرحلة ما بعد الاستعمار والحوار بين الأديان، وليس على الحروب الثقافية الغربية. ومع ذلك، لم يكن أحد في عام 2013 يتوقع أن ينتخب المجمع الانتخابي الذي اختاره البابا يوحنا بولس الثاني بعناية، في عام 2013 الكاردينال خورخي ماريو برغوليو خلفا للبابا العقائدي بندكتوس السادس عشر

كيف يمكن أن يبدو خليفة فرنسيس؟

إذا كان الخلف إصلاحياً، فسيكون كاردينالاً من أميركا اللاتينية أو آسيا أو أفريقيا متعاطفًا مع رؤية فرنسيس، مثل الكاردينال الفليبيني لويس أنطونيو تاغل الذي يمكنه توسيع الإصلاحات السينودسية مع التشديد على العدالة الاجتماعية.

وإذا كان الخلف تقليديا فسيكون كاردينالاً من أوروبا أو أميركا الشمالية، وقد يعيد مركزية السلطة ويعتمد التصلُّب العقائدي، خاطباً ودّ التقليديين. لكنّه بالتأكيد ينفر الجنوب العالمي.

من المحتمل أن يكون البابا الجديد وسطيا وبراغماتيًا من آسيا أو إفريقيا، مثل الكاردينال روبرت سارة من غينيا، الذي قد يمزج بين تصلب اللاهوت والحساسية الرعوية الشعبية، ويوازن بين الإصلاح والتقاليد.

سيتشكل أسلوب قيادة البابا المقبل من خلال تاريخه الشخصي وتجاربه التكوينية والمنطقة التي يأتي منها. بينما تقف الكنيسة الكاثوليكية على مفترق طرق، فإن صورة البابا الجديد لن تشير فقط إلى تغيير في القيادة، ولكن أيضًا إلى إعادة توجيه لمهمة الكنيسة العالمية وثقافتها الداخلية.

الأصل الجغرافي والخبرة الرعوية

إذا كان البابا المقبل من الجنوب العالمي، فمن المرجح أن يعتمد أسلوب قيادة منسجماً مع حقائق الفقر والهجرة والتعددية الدينية. غالبًا ما تشجع هذه الخلفية على اتباع نهج رعوي ومنفتح على الخارج، مع التركيز على العدالة الاجتماعية والإدماج ودور الكنيسة كمناصر للمهمشين.

في المقابل، قد يكون البابا المقبل من أوروبا أو أميركا الشمالية أكثر تركيزًا على الوضوح العقائدي والتجديد المؤسسي وتحديات العلمنة.

الكنيسة مهنةً وخدمة

من المرجح أن يعطي المرشحون ذوو الخبرة الواسعة في القيادة الأبرشية أو الخدمة الشعبية - مثل الكاردينال ماتّيو تسوبي من إيطاليا، المعروف بعمله مع الفقراء والمهاجرين - الأولوية للمشاركة العملية والحوار والإصلاح العملي.

قد يؤكد أولئك الذين لديهم تجربة في إدارة الفاتيكان أو الأوساط اللاهوتية على الإخلاص العقائدي والإدارة الداخلية والاستمرارية مع التقاليد الراسخة.

أحداث الحياة التكوينية

غالبًا ما تؤدي المشقة الشخصية، مثل تلك التي عاشها البابا فرنسيس، الذي نشأ في عائلة من الطبقة العاملة وخدم في الأحياء الفقيرة في بوينس آيرس، إلى تنمية التواضع والتعاطف والتحيز للعمل.

عادة ما يؤدي تاريخ العمل التبشيري أو المشاركة مع المجتمعات المهمَّشة إلى أسلوب قيادة شامل وعملي ومستعد لمواجهة الحقائق غير المريحة. وعليه فلن يُحكَم على قيادة البابا المقبل بالسياسة فحسب، بل بالمثال الذي يقدّمه - اختياره للإقامة وطرق السفر والاستعداد للانخراط مع المهمشين. لقد وضع تواضع فرنسيس وبساطته معيارًا جديدًا للسلوك البابوي.

يمكن للإيماءات الرمزية - مثل زيارة مناطق الصراع أو غسل أقدام السجناء أو مخاطبة القمم العالمية - أن تنقل بقوة الأولويات والقيم، وتشكيل الروح المعنوية الداخلية والتصور الخارجي.

صنع القرار والحكم

إذا كان البابا الجديد من صاحب شخصية تبلورت من خلال الخدمة العامّة والمشاركة في المجامع اللاهوتية، سيسعى إلى تأمين أكبر مشاركة استشارية نقاشية حول أي قرار قبل اتخاذه. كانت هذه السمة المميزة لنهج فرنسيس، على الرغم من أنه تصرف أيضًا من جانب واحد عند الضرورة.

الشجاعة والإصلاح

تتطلب معالجة التحديات المتجذّرة مثل الإصلاح المالي للفاتيكان أو فضائح الاعتداء الجنسي التي ارتكبها رجال الدين، ليس فقط التعاطف ولكن أيضًا التصميم الفولاذي. جمع فرنسيس بين النعمة والصلابة، وسوف يعتمد استعداد البابا الجديد لمواجهة الجمود المؤسسي على تجربته السابقة في إدارة المواقف المعقدة أو الأزمات.

سوف يرث البابا المقبل كنيسةً تشغلُها نقاشات لم تسفر عن حل. وسوف تؤثر تجربته في ما إذا كان سيواصل مسيرة فرنسيس التقدمية أو يسعى إلى استعادة نظام أكثر تحفظًا.

سيُقارَن أسلوب قيادة البابا الجديد بأسلوب فرنسيس وكيف يفسّر مهمة الكنيسة. قال البابا يوحنا الثالث والعشرون ذات مرة إن الكنيسة يجب أن تقرأ علامات زمنها. فعل فرنسيس ذلك وتصرَّف على أساسه. وعلى ما قاله أحد أهل اللاهوت الأميركيين "إن الناس ينتظرون من البابا أن يرفعهم نحو الله. أمّا فرنسيس فأنزل الله إلينا".

أما الآن فما علينا إلا أن ننتظر "إلهام الروح القدس" الذي يحلّ دائماً على الكرادلة حين يجتمعون لانتخاب البابا.