مع تعليق الرئيس الأميركي دونالد ترامب المساعدة لأوكرانيا، تواجه أوروبا ضغوطًا غير مسبوقة لتحمل العبء بمفردها. ومسار الحرب في أوكرانيا يتوقّف الآن على قدرة أوروبا على الحفاظ على الدعم العسكري والاقتصادي وهي تواجه مخاطر الركود، والتحولات المتّصلة بالطاقة، والانقسام السياسي. هنا تبرز أربعة سيناريوهات محتملة، كل منها مرتبط بالمرونة الاقتصادية والتماسك الاستراتيجي لأوروبا:
وحدة هشة: أوروبا تحافظ على الدعم بكلفة اقتصادية باهظة
تتّحد المؤسسات الأوروبية والدول الأعضاء الرئيسية مثل ألمانيا وفرنسا لتعويض الانسحاب الأميركي بتسريع التمويل العسكري وإرسال إمدادات الطاقة لأوكرانيا. لكنّ إجراءات التقشف المتّبعة لتمويل هذا الدعم، مثل خفض البرامج الاجتماعية أو تأخير مبادرات التحوّل الى الطاقة النظيفة، تثير اضطرابات محلية.
في هذا السيناريو، تستند المفوضية الأوروبية إلى "بنود الطوارئ" لتجاوز اعتراضات الدول الأعضاء، مثل عرقلة المجر، فتنشئ بسرعة "صندوق الدفاع الأوكراني" بقيمة 20 مليار يورو. تفرض الحكومات ضرائب استثنائية على الشركات لتمويل الصندوق، مثيرة رد فعل عنيفا من القطاع الخاص. وفيما تنجح أوكرانيا في تثبيت خطوط الجبهة بفضل المدفعية وأنظمة الدفاع الجوي الأوروبية، تظل عاجزة عن شن هجمات مضادة كبرى. في المقابل، تواجه دول الاتحاد إضرابات وتمردات شعبوية.
تستغل الصين تشتُّت أوروبا بتعزيز علاقاتها التجارية مع دول شرق أوروبا، فيضعف احتمال فرض وتطبيق العقوبات على روسيا
الإرهاق الاقتصادي: انخفاض الدعم وانهيار أوكرانيا
بحلول منتصف 2026، تزيد الضغوط التي يولّدها الركود الناتج عن تضخم سعر الطاقة والإنفاق الدفاعي المتصاعد وتجبَر أوروبا على تقليص مساعدتها. يرفع البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة لمكافحة التضخم، مقلّصًا بذلك المساحة المالية للدعم. أما الحكومة البولندية الشعبوية فتحوّل الأموال المرصودة للدعم إلى إعانات محليّة وسط الاحتجاجات، فينخفض تسليم الأسلحة لأوكرانيا.
تستغل روسيا هذا الوضع بشن هجوم حاسم، تحتل فيه خاركيف وأوديسا، وتجبر كييف على قبول تقسيم مناطقي فتتخلى أوكرانيا عن الأراضي الواقعة شرق نهر دنيبرو وتسقط حكومة زيلينسكي، لتحل محلها حكومة موالية لموسكو. تواجه أوروبا حدودًا روسية عسكرية، تدفعها لإنفاق دفاعي مذعور يفاقم أزمات الديون.
ومن ذيول ذلك، تتهاوى مصداقية حلف الناتو، وتتحوّل دول الجنوب العالمي نحو تحالفات أمنية روسية-صينية.
مخاطر كارثية طويلة الأمد
تمويل مبتكر: أوروبا تصادر الأصول الروسية المجمّدة لأجل طويل
يشرّع الاتحاد الأوروبي مصادرة 300 مليار دولار من أصول البنك المركزي الروسي المجمدة، وتوجَّه الفوائد لتمويل شراء الأسلحة لأوكرانيا. هذا يخلق حرب استنزاف طويلة لكنه يعرقل التحوّل الأوروبي إلى الطاقة الأنظف بسبب ارتفاع التكاليف.
تؤيد دول مجموعة السبع مصادرة الأصول رغم تهديدات الكرملين بالانتقام وتأميم الأصول الأجنبية. تعزز شركات الأسلحة الأوروبية الإنتاج عبر "سندات الذخيرة" التي يدعمها الاتحاد الأوروبي، لجذب الرساميل الخاصة.
يمكّن هذا أوكرانيا من استخدم تكتيكات غير متناظرة لإزعاج القوات الروسية، على حساب تصاعد الخسائر. تواجه أوروبا هجمات إلكترونية روسية انتقامية وتتعطل إمدادات الغاز المسال.
وردًّا على المصادرة، تنشئ دول بريكس نظامًا ماليًا موازيًا لحماية أصولها من المصادرات الغربية.
انقسام الاتحاد الأوروبي: الثورات الشعبية تنهي الدعم وتمهد لانتصار روسي
تؤدي المعاناة الاقتصادية إلى انتصارات لليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي عام 2027، فيدفع "التجمع الوطني" الفرنسي و"البديل من أجل ألمانيا" (AfD) بأجندة "أوروبا أولًا" لوقف المساعدة لأوكرانيا. وتقود المجر وسلوفاكيا كتلة موالية لروسيا، فتتصدّع الوحدة الأوروبية.
والمرجّح أن يكون السبب المباشر لتلك التطورات أزمة طاقة قاسية في الشتاء تفرض تقنينًا وتقوّض الدعم الشعبي لأوكرانيا. تفرض الحكومة الإيطالية بقيادة "الرابطة" فيتو على حزم المساعدة الأوروبية، مطالبة بفرض قيود على الهجرة مقابل ذلك.
نتيجة لذلك تنهار أوكرانيا خلال أشهر، وتقع ألمانيا وبولندا في أزمة لاجئين مع فرار الملايين إليهما. وتنقسم أوروبا إلى كتل متنافسة: دول الشرق، وهي التشيك وسلوفاكيا وبولندا والمجر، تشكل "تحالف فيشيغراد العسكري"، فيما تسعى دول الغرب لتحسين العلاقات مع روسيا.
حينذاك يعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "نظاما أوراسيا جديدا"، بدعم من تركيا والمملكة العربية السعودية.
التداعيات الاستراتيجية على الولايات المتحدة
قدرة أوروبا على تحقيق توازن بين الاستقرار الاقتصادي ودعم أوكرانيا هي التي ستحدّد نتيجة الحرب. انتصار روسي، أو حتى بقاء الوضع على حاله سيمنح موسكو نفوذًا لتوسيع مداها العسكري لحدود الناتو، ودمج مقاتلين أوكرانيين مدربين، وتفادي المساءلة عن عدوانها.
الأهم، انسحاب الولايات المتحدة يحمل مخاطر كارثية طويلة الأمد. فقد كشفت دراسة لمعهد "أميركان إنتربرايز" عن أن هزيمة أوكرانيا قد تجبر الولايات المتحدة على إنفاق 808 مليارات دولار إضافية على الدفاع خلال خمس سنوات، أي سبعة أضعاف الـ 112 مليار دولار التي خصصها الكونغرس لكييف منذ 2022. وتُنفَق غالبية هذه الـ 112 مليار دولار داخل الولايات المتحدة على إنتاج وشراء الأسلحة. ببساطة، كلفة منع انتصار روسيا أقل بكثير على واشنطن من مواجهة عواقبه.
باختصار، إضعاف أوروبا وانهيار النظام العالمي الليبرالي يمثلان رهانًا خطيرًا بعواقب لا تُحصى للولايات المتحدة.