على "جناح صهيون" الطائرة الرئاسية الجديدة التي وُضعت للمرّة الأولى في الخدمة "كرمى له" سافر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى واشنطن ليعود منها على "جناح السرعة" لتحقيق "النصر المطلق" الذي يعد نفسه به، وقد اخترع له قبّعة اعتمرها في سفره طامحاً إلى الحصول على "الدعم المطلق" لاستكمال حربه لـ"القضاء" على حركة "حماس" ولشنّ حرب على لبنان من أجل "القضاء" على حزب الله.

وعلى "جناح صهيون" هذا، سافر نتنياهو إلى واشنطن مباشرة لكي لا يجنح للتوقّف في محطّات كان ملزماً بأن يتوقّف فيها لو سافر في طائرة غير رئاسية، ومنها محطة "تشيكيا" العزيزة عليه. وبـ"جناح صهيون" هذا تجنّب نتنياهو التعرّض للتوقيف بموجب مذكّرة للمحكمة الجنائية الدولية صدرت، أو يمكن أن تصدر في أي وقت، ضده، إذ إنّها تتهمه بارتكاب مجازر حرب وإبادة جماعية في قطاع غزة.

زيارة نتنياهو لواشنطن كان أبرز ما فيها تلك المسرحية التراجيدية التي عرضها على مسرح الكونغرس الأميركي مستعيناً بـ"كومبارس" شكّله من بعض أهالي الأسرى والضباط والجنود الذين اصطحبهم معه على "جناح صهيون". فقد اقتصر الإعجاب بها على الذين تأثّروا بها تحت قبّة الكابيتول، فبالغوا بالتصفيق وقوفاً أكثر من خمسين مرة، في ما اعتبره البعض تعويضاً لنتيناهو عن عدم اكتراث الإدارة الأميركية به، إذ لم يستقبله أيّ ممثل لها أو لوزارة الخارجية لدى وصوله إلى العاصمة الأميركية.

ومن "الكومبارس" الذين استخدمهم نتنياهو في مسرحيته، بعض الأعراب المسلمين الذين قدّمهم على أنّهم "يقاتلون في سبيل إسرائيل"، ثم هاجم المتظاهرين ضدّه أمام الكونغرس أثناء إلقاء خطابه معتبراً إياهم "دمية" في يد إيران، تماماً كما وصف الطلّاب الذين ثاروا في الجامعات الأميركية مندّدين بالحرب على قطاع غزة، لكنّه لم يكن موفّقاً حين تعرّض لهؤلاء، خصوصاً حين اعتبرهم "معادين للسامية" في الوقت الذي كان بينهم مجموعات من منظمات يهودية متعدّدة تتظاهر ضدّه، وترفع لافتات كتبت عليها عبارات تصفه بأنّه "مجرم حرب" وتحضّ على عدم استقباله.

من كان به خبيراً

على أنّ البعض يقول إنّ نتنياهو عرف كيف يخاطب العقل والرأي العام الأميركيين تحت عنوان "واسأل من كان به خبيراً". فهو يدرك حجم الانقسام الذي تعيشه الولايات المتحدة الأميركية. ولذلك حاول بخطابه إقامة التوازن في العلاقة بينه وبين كلّ من بايدن وترامب، فلم يهاجم بايدن بل أشاد به وبما قدّمه لإسرائيل منذ عملية طوفان الأقصى، ثمّ أثنى على ترامب محاولاً ترميم العلاقة معه بعدما اهتزت إثر مسارعته إلى تهنئة بايدن بالرئاسة الأميركية عام 2020، قبل أن تصدر النتائج الرسمية التي شكّك فيها ترامب يومذاك، ووجد فيها أخطاء إذا صحّحت ربما تأتي لمصلحته، في الوقت الذي كان أنصاره يقتحمون مبنى الكونغرس احتجاجاً واستنكاراً لهذه النتائج. كما أنّ نتنياهو لم يأت في خطابه على ذكر نائبة الرئيس كامالا هاريس التي لم تحضر بروتوكولياً جلسة سماع خطابه في الكونغرس. وكانت النتيجة أنّ نتنياهو قدّم للأميركيين عموماً وللجمهوريين الذين صفّقوا له وقوفاً تحديداً، ذخيرة من خطاب دعائي ـ بكائي محاولاً استدرار التعاطف معه ومدّه بالدعم الذي يطلب لاستكمال حربه على حماس وحزب الله وكلّ المحور الذي تقوده ايران التي اعتبرها "مصدر الشر". وأكثر من ذلك، ذهب نتنياهو إلى تحذير الولايات المتحدة من أنّها ستكون "الهدف التالي لإيران في حال تقييد إسرائيل ومنعها من حسم المعركة ضدّ حماس وأتباع إيران"، إذ قال "حينما نقاتل حماس وحزب الله والحوثيين إنّما نقاتل إيران".

نتنياهو ما يزال يمارس سياسة التهويل بالحرب ولو كان في إمكانه خوضها لفعل ذلك 

نتنياهو المغتبط بنجاة "صديقه" دونالد ترامب من محاولة الاغتيال التي تعرّض لها في بنسلفانيا، والتي عززت فرصه بالفوز في السباق الرئاسي، وارتدّت اغتيالاً سياسياً للرئيس جو بايدن وحوّلته "رئيس تصريف أعمال" في هذه الأشهر القليلة المتبقية من ولايته، أراد، أي نتنياهو، أن يعود إلى إسرائيل ليصعّد من حربه على حركة "حماس" وتصفيتها نهائياً، خصوصاً أنّه تلقّى ما يشبه النصيحة، بل الدعوة العلنية من ترامب وحاشيته، إلى إنهاء هذا الأمر سريعاً، وقبل وصول الأخير إلى البيت الأبيض "لأنّ هذا الأمر سيكون صعباً جداً" إذا لم ينهه الآن، لأنّ ترامب سيكون مضطراً إلى الأخذ بخيارات أو قد يجد نفسه أمام خيارات أخرى لدى محاولته استكمال "صفقة القرن"، أو الدخول في صفقة أخرى تفرضها طبيعة المرحلة.

احتمال الجنون

في هذا السياق، يجزم ديبلوماسي مخضرم وخبير في السياسة الأميركية بأنّ أيّ شيء لم يتغير في الواقع الميداني لغزّة وجنوب لبنان بعد زيارة نتنياهو الأميركية لأنّ الأميركيين بحزبيهم "الجمهوري" و "الديموقراطي" وما بينهما لا يؤيّدون توسعة الحرب. كذلك لا يؤيدها الفرنسيون ومعهم جميع الأوروبيين، ولا إيران، ولا عواصم عربية ودولية أخرى.

ولكن في الوقت الذي تحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال لقائه الأخير مع الرئيس السوري بشار الأسد عن أنّ الشرق الأوسط "مقبل على تصعيد، فإنّ هناك مخاوف حقيقية من احتمال جنون نتنياهو في لحظة ما وإقدامه على توسعة الحرب خلال شهري آب وأيلول المقبلين، ولكن إذا لم يؤمّن المستلزمات اللازمة لحرب من هذا النوع من جسر جوي يمده بالدعم المطلوب فلن يكون في مقدوره شنّها.

ويذهب الديبلوماسي نفسه إلى القول إنّ نتنياهو ما يزال يمارس سياسة التهويل بالحرب ولو كان في إمكانه خوضها لفعل ذلك منذ اليوم التالي لعملية "طوفان الاقصى"، خصوصاً أنّه أُعلن يومذاك أنّه كانت لديه خطط لمهاجمة حزب الله قبل حصول "الطوفان" الذي لم يكن في الحسبان لديه ولدى غيره أساساً.

ويؤكّد الديبلوماسي أنّ عملية "طوفان الأقصى"، وبغضّ النظر عن تفسيرات كثيرة أعطيت لها، أعادت طرح القضية الفلسطينية كأولوية في الاهتمامات الإقليمية والدولية، وقطعت الطريق على "صفقة القرن" التي لم تمت خلافاً لاعتقاد البعض، لأنّها لا تزال مستمرّة وهي تنتظر عودة "عرّابها" دونالد ترامب إلى البيت الابيض لتسريع خطواتها، والتطبيع الذي حصل بين بعض الدول العربية وإسرائيل هو جزء منها ولم يكتمل فصولاً، وهي تضع القضية الفلسطينية جانباً في انتظار استكمال حلقات التطبيع، ليتمّ بعدها البحث ليس في إقامة دولة فلسطينية وإنما في "تحسين حياة الفلسطينيين"، وهو تعبير استخدمه بعض المعنيين في الصفقة السابقة، ويعني أنّه لن تكون هناك دولة للفلسطينيين وإنّما تحسين لمعيشتهم في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي، وأنّه لن يكون هناك "حلّ الدولتين" حسب اتفاقات اوسلو وغيرها.

ويبدو أنّ حركة "حماس" وأخواتها تمكّنت من خلال طوفان الأقصى من إرجاع القضية الفلسطينية إلى الصدارة، وعرّضت اتفاقات التطبيع الناتجة من "اتفاقات ابراهام" لخطر الانهيار، وعطّلت "الخط الهندي" الذي رسمته الولايات المتحدة الأميركية وشركاؤها فيه، من الهند إلى حيفا مروراً بشبه الجزيرة العربية، وأريد منه مواجهة "خط الحرير" أو "الحزام والطريق" الذي تقوده الصين بالتضامن مع روسيا وإيران وكلّ الدول التي تشترك فيه جغرافياً وسياسياً واقتصادياً.