يجزم المستشار المالي ميشال قزح بأنّ الأزمة الاقتصادية أصبحت خلفنا. وهو ينطلق من ثلاثة مؤشرات رئيسة:

- تحوّل ميزان المدفوعات من سالب إلى موجب منذ العام الماضي وصولاً إلى النّصف الأول من العام الجاري. وبحسب الأرقام، حقّق ميزان المدفوعات فائضاً بقيمة 585 مليون دولار إلى نهاية نيسان 2024، في حين بلغ الفائض عن العام 2023 ما يقارب 2.24 مليار دولار.

- استعادة رواتب أجراء القطاع الخاص النّسبة الكبرى من قيمتها بالدولار، ووصولها في بعض القطاعات إلى 100 في المئة، كما كانت عليه قبل الانهيار.

- تحسّن المؤشرات الاجتماعية، والعودة إلى استهلاك الكماليات والسلع الفاخرة بعد انقطاع طويل عنها منذ وقوع الانهيار إلى العام 2022. وهذا ما يمكن ان يُستدلّ عليه من الميزان التجاري الذي سجّل أرقام استيراد موازية لتلك التي سجّلها في العام 2019.

تفاصيل المؤشّرات الاقتصادية الكلّية لا تدلّ على التعافي

يتفّق الجميع على أنّ المؤشّرات الاقتصادية والاجتماعية تدلّ من حيث الشكل على تخطّي لبنان الانهيار. إنّما، كما يقال، "يكمن الشيطان في التفاصيل"، فالفائض في ميزان المدفوعات الذي يتكوّن من الحساب الجاري، وفروقات رأس المال، واحتياطيات العملات الأجنبية، قابلها عجز كبير في الحساب الجاري (يقيس الفرق بين الصادرات والواردات والتدفقات النقدية من الاقتصاد وإليه). وقد بلغ عجز الحساب الجاري في العام 2023، على سبيل المثال، حوالى 5 مليارات و642 مليون دولار. ومن هنا يخشى أن يكون الفائض المحقّق في ميزان المدفوعات دفترياً أكثر منه فعلياً. أمّا في ما خصّ عودة الاستهلاك، فيقدّر الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين أنّها لبلدين (لبنان وسوريا) ولا تدلّ على ارتفاع الطلب المحلّي فقط. وهذا لا يعود إلى العدد الكبير للسوريين النازحين إلى لبنان، والذين يشكّلون 40 في المئة من السكّان على أقلّ تقدير، إنّما لاستخدام التجار السوريين لبنان منطلقاً لعقد الصفقات والاستيراد. خصوصاً بعد إخضاع سوريا لعقوبات صارمة مثل "ماغنيتسكي" و"قيصر".

الأزمة تنتهي على حساب المودعين والموظفين

الخلاصة التي يمكن الركون إليها هي أنّ الانهيار لامس قعر المرحلة الحالية، من دون الجزم بأنّ هذا الدرك نهائي. ذلك أنّ عودة الاضطراب إلى سعر الصرف، أو الإنفاق العام من دون حساب، قد يهبطان بالاقتصاد إلى أعماق لم يصلها سابقاً. لكن في جميع الحالات، اتخذ الانهيار راهناً شكل (L) بالحرف اللاتيني، أي ملامسة القعر والسير بالأسفل باستقرار، مع عجز عن تحقيق النموّ والصعود مجدداً. وقد دفع هذا الواقع بقزح إلى القول إنّ "الانهيار انتهى على حساب المودعين وموظفي القطاع العام". والخطورة أنّ هاتين الشريحتين تشكّلان الثقل المادي والعددي الأكبر في الاقتصاد. فالمودعون خسروا ما لا يقلّ عن 80 مليار دولار من مدخّراتهم أو استثماراتهم. صحيح أنّهم ليسوا كلّهم لبنانيين، إنّما الجزء الأكبر منهم. فمن أصل المتبقّي من ودائع في القطاع المصرفي نحو 91 مليار و281 مليون دولار، بحسب آخر تحديث للأرقام من قبل جمعية المصارف، ليس هنالك بين مصرف لبنان والمصارف التجارية احتياطيات عملات أجنبية تفوق 10 مليار دولار. هذا المبلغ يأخذه المودعون بالتقسيط غير المريح، وبدفعات شهرية تراوح بين 150، و300 و400 دولار بحسب التعميمين 166 و158. وهي مبالغ أعجز من أن تموّل الفاتورة الاستهلاكية للمودعين، أو تؤمّن أبسط حاجاتهم. في المقابل، هناك نحو 350 ألف موظف في القطاع العام بين فاعل ومتقاعد، خسرت رواتبهم حوالى نصف قوّتها الشرائية برغم كلّ الإضافات. والأخطر أنّ الزيادات تعتبر اجتماعية ولا تدخل في صلب الراتب، ولا تُحتسب في تعويضات نهاية الخدمة، عدا أنّ التقديمات الاجتماعية من تعليمية وصحية واستشفائية ودوائية ما زالت متدنية جداً، ولا تتجاوز 40 في المئة مما كانت عليه قبل الأزمة.

كان لبنان قبل الانهيار يعتبر من أكثر البلدان نقصاً في عدالة توزيع المداخيل بين سكّانه

اللامساواة تتعمّق

يشبّه مدير "مبادرة سياسات الغد" الدكتور سامي عطالله الواقع الاقتصادي بـ"استقرار وضع المُصاب بمرض مزمن نتيجة المنشّطات، من دون أيّ إمكانية للتعافي من أجل رفض تناول العلاج". إذ لم يُفرض إصلاح جوهري واحد منذ بداية الانهيار، وتُركت الأمور تعالج نفسها بنفسها بطريقة مشوّهة، مجاراةً لمقولة الحاكم السابق لمصرف لبنان "بكرا بيتعوّدوا". وفوّت "المسؤولون فرصة بناء اقتصاد قوي وسليم، بعد انهيار النموذج الريعي، وتدهور سعر الصرف. فلم تزدد الصادرات ولم يتفعّل الإنتاج في مختلف القطاعات، بل على العكس، ارتفعت كلفته نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة، وعاد الاقتصاد إلى عادته القديمة معتمداً على تحويلات المغتربين وإنفاق السياح. "فازدادت هشاشته، نتيجة إمكانية تعرّضه للانهيار في أيّ لحظة، وتعمّقت اللامساواة في المجتمع على مستوى المداخيل، وزادت الفروق بين الطبقات الاجتماعية إذ ازداد الفقراء فقراً والأغنياء غنى، وتكرّس احتكار قلة قليلة للثروة الوطنية أكثر ممّا كانت عليه قبل الانهيار"، بحسب عطالله.

في الأساس، كان لبنان قبل الانهيار يعتبر من أكثر البلدان نقصاً في عدالة توزيع المداخيل بين سكّانه. وفي بحث نشره معهد "كارنيغي" للباحثة ليديا اسود، تبيّن أن 10 في المئة من السكان حصلوا على ما بين 49 و54 في المئة من الدخل القومي بين 2005 و2016، وحصل أفقر 50 في المئة من السكان على ما بين 12 و14 في المئة فقط. ومن قبيل المقارنة، فإنّ هذا الرقم يقلّ عن 35 في المئة في فرنسا وحوالى 45 في المئة في الولايات المتحدة. وهذه الإحصائية تضع لبنان في عداد البلدان التي تواجه أعلى مستويات عدم المساواة في الدخل في العالم، مع جنوب أفريقيا والبرازيل. وبرأي سامي عطالله "هذه اللامساواة زادت بعد الانهيار ولم تنخفض. وعلى الرّغم من عدم وجود أرقام دقيقة، فإنّ متابعة الذين استفادوا من "الهندسات المالية الجديدة" من صيرفة، والدعّم، وتسديد القروض على أسعار غير حقيقية، يتبيّن أنّ قلّة قليلة لم تستفد فحسب، بل حقّقت ثروات على حساب بقيّة المواطنين". وما زاد الطين بلّة "عدم إقرار أو حتى تطبيق السياسات التي تحمي المجتمع". فجرى التصدّي للضريبة على الربح المتأتّي من الدعم ومن التربّح من صيرفة. إذ أسقطت الأولى في المجلس الدستوري، في حين لا يمكن الثانية وضع آلياتها التطبيقية. ولم تُوضع سياسات لحماية سعر الصرف، ولا إقرار "كابيتال كونترول"، ولم تحصل بلورة رؤية جديدة للمستقبل الاقتصادي ولا تحديث خطة "ماكينزي – 2017"، وأهمل الانتقال إلى إستراتيجية الحماية الاجتماعية.

بعد الحديث عن الأقلّية الغنيّة، وتلك التي اغتنت، لا يمكن تجاهل الأكثرية التي ازدادت فقراً. فما هو وضعها بعد 5 أعوام على الانهيار؟ وما السياسات التي اعتمدها لبنان لتخفيف الأعباء؟ نتناولها في الجزء الثالث والأخير غداً من سلسلة: "ليس السؤال هل انتهت الأزمة بل ما الذي انتهت اليه؟".