بين الكتابة السياسية وقضايا المحاكم تشابه كبير، وكما تحتاج المسائل القانونية إلى قاض يحكم بالعدل والقسطاس كما يقال، تتطلّب الكتابة السياسية، أن يكون الكاتب معتدلاً، ومجرّداً من الميول والهوى الذي يفسد القلوب والعقول، وليس في باب النقد السياسي، أسوأ من المغالاة التي تفقد الكاتب المتحزّب رشده، أو بعض رشده، وتجعله يعتقد، أنّ الحقيقة هي كما يراها هو وحده، لا كما يراها غيره، وعليه، لا نحتاج إلى جهد لندرك كم هي خطرة، الفروقات السياسية والاجتماعية التي تضع بلداً مثل لبنان، في حال تأزّم دائم، وتدفع الكثير من المواطنين إلى التحزّب، وتصرفهم عن القصد والاعتدال. لهذا السبب، انقسم لبنان على نفسه، ولا يزال منقسماً، ورازحاً تحت حكم أحزاب طائفية، يحاول كلّ منها أن يصادر الحقيقية ويحتكرها، ليرسّخ في خيال جمهوره، أفكاراً أشبه بقناعة "ربّانية" مصطنعة، بأنّ نهجه هو الطريق والحق والحياة، وأن لا خلاص للبنان إلّا به، وتبعاً لذلك، تصبح مواقف الموالين لهذا الفريق أو ذاك، أحادية الجانب ومرآة لعين واحدة. من هذا القبيل، نظرة في السياسة اللبنانية تحدّث عنها السيد ميشال الشمّاعي على إحدى القنوات اللبنانية، ونشرها مقالاً انتقد فيه "محور الممانعة"، قائلاً إنّ هذا المحور "عطّل مرافق الدولة، ونجح بتكريس التعطيل نهجاً سياسياً أوصل البلاد والعباد، إلى حال من التجمّد السياسي".

أضم صوتي إلى صوت السيد الشمّاعي في نقد "محور الممانعة"، وأستطيع أن أذهب في نقد هذا المحور، إلى أبعد ممّا ذهب. لكن لا يسعني بالرّغم من ذلك، إلّا أن أخالفه الرأي في أنّ "الفريق الآخر"، المعارض لنهج "محور الممانعة"، هو الجهة المؤهلة لصناعة الدولة. وبمقدور أيّ ناظر معتدل في الشأن اللبناني، أن يقدّم أعداداً هائلة من الحجج والبراهين التي تثبت أنّه إذا كان هناك من مرض فتّاك، لا شفاء منه للبنان، فهو هذه الأحزاب الطائفية التي تخالف بعضها بعضاً "على السطوح"، لكنها تساند بعضها بعضاً في "الأعماق". وكلّ حزب منها، يقتات من وجود الآخر، وينتعش، ويعزز شعبيته ومصالحه، على حساب لبنان ومصلحة شعبه. وفي فضاء كهذا الفضاء اللبناني، الذي تتحكّم فيه أحزاب الطوائف بمفاصل البلاد، يستحيل أن يُولد وطن يمثّل آمال اللبنانيين وأحلامهم وتطلّعاتهم إلى الحياة الحرّة، وقد أثبتت التجارب أنّ الأحزاب الطائفية، خطر على لبنان، يفوق أي خطر آخر عليه، ووجودها خدمة مجانية لإسرائيل وأعداء لبنان، القريب منهم والبعيد، وإذا كانت أموال "حزب الله" وطعامه وشرابه وسلاحه كلّها من إيران، كما صرح أمين عام هذا الحزب ذات مرة، فإنّ الأحزاب الطائفية الأخرى، التي لا تختلف في عصبيّتها، عن عصبية "حزب الله" إلّا في الشكل، تتلقّى هي الأخرى دعماً من الخارج، بذريعة أنّها ضد "حزب الله". والتاريخ يُظهر أنّ العصبيات تولّد العصبيات، والمستفيد منها من يركب أمواجها من زعماء الطوائف، ومن يساندهم من الزبانية والأجراء ورجال الدين. قد يكون من المفيد والحديث عن هذه الأحزاب، أن اذكر، أنّه قبل نحو عشر سنوات، حين كان لبنان منقسماً انقساماً حاداً، بين فريقي 14 آذار و8 آذار، قلت في إطلالة على شاشة قناة "المستقبل"، مع الزميلة الإعلامية في حينه، النائبة الحالية بولا يعقوبيان، إنّ هذين الفريقين، عالة على لبنان، وأنّ يوما سيأتي، ويخربانه أكثر مما هو خربان، قلتها في وقت لم تكن شرارة 17 تشرين قد اندلعت بعد، وما كان شعار "كلن يعني كلن" قد ظهر بعد إلى الشيوع. إنّ المرء لا يحتاج إلى أن يضرب في الرمل، ويتوقع، على طريقة ليلى عبد اللطيف وغيرها من "سيدات التوقّعات" ليعرف مسبقاً، أنّ هذه الأحزاب الطائفية ليس منها نوى ولا خير، ولا تأتي بغير الفساد والدمار والخراب، مهما كبر حجمها، وزاد عدد مناصريها، وعدد ممثليها في المجلس العقيم، الذي اسمه المجلس النيابي، كما لا يحتاج أي إنسان لديه معرفة بسيطة في تاريخ الشعوب ومراحل تطورها، ليدرك أنّ الدولة التي يرتكز دستورها على مبادئ المساواة والعدالة والحرية وسيادة القانون، هي الحل الذي لا حلّ غيره لأيّ بلد ينشد التطوّر، ولبنان الغاطس في الوحول، ليس استثناءً بالطبع، هو بلد لا يزال منذ "استقلاله" المشؤوم إلى اليوم، يعاني نظاماً لم يجلب عليه إلّا الحروب والندوب والقهر والعذاب.

أعود إلى الدكتور الشمّاعي، لأعقّب على مقال له جاء فيه "إنّه في مقابل الفريق الممانع يبرز الخط الذي يعمل بما يملك من قوى شعبية وسياسية ليعيد الانتظام إلى الدولة، فتعود بدورها المرجع الوحيد للبنانيين كلهم، وبعودتها يتحرّر الخائفون من أيّ سطوة، مهما اختلفت طبيعتها، سواء كانت أمنية أو عسكرية أم اقتصادية، أو حتى إيديولوجية دينية - عقائدية". عليه نقول للكاتب: مهلاً يا دكتور، على رِسلك، كما تقول العرب، ونسأله: في أي زمن وجدت هذه الدولة في تاريخ لبنان، ليأتي "محور الممانعة" ويعطّل مرافقها؟ منذ تركنا الفرنسيون، الذين كانوا هم من بنوا الدولة الجدّية، وكانوا أرحم عليها وعلى شعبها ألف مرة من "الزعماء الوطنيين"، ولبنان يُهان. وحتّى عندما هيأ القدر لهذا البلد رئيساً قوياً ذا سلطة مطلقة، هو فؤاد شهاب لم تقم الدولة التي أرادها ذاك الرئيس وحلم بها. ويحضرني كلام قاله لي الراحل جان عبيد، أنّ الرئيس شهاب قال له مرة، إنّه إذا جاء يوم وانطفأت الكهرباء في بلدة مثل الهرمل، فسيأتي يوم آخر، وتنطفئ في كلّ ناحية من نواحي لبنان، لأنّ الرئيس شهاب، كان بعيد النظر، يؤمن بمبادئ التنمية الشاملة المستدامة، ولم يخيّب أمله، ويعطّل نهجه إلا أحزاب القبائل والطوائف. علماً أن أحزاب تلك الأيام، كانت أقلّ سوءاً بما لا يقاس، مقارنة بأحزاب هذه الأيام، وها أنت يا دكتور، أوحيت لمن قرأ مقالك، بأنّ على يد الفريق الآخر، "غير الممانع" تعود الدولة وتنتظم! هذا شيء غريب يمكن أن تفترضه في الخيال، أمّا في الحياة الواقعة، فليس إليه من أمل ولا من سبيل، لأنّ الكلّ يعرف أنّ ميليشيات هذه الأحزاب كانت تُرهب السكان، في المناطق التي كانت تحت سيطرتها، وحيث كانت لها بيارق ومراكز ورجال، وهي هذه الأحزاب نفسها التي أشعلت في منتصف السبعينات، حرباً أهلية ضروساً، عطّلت مرافق الدولة وقوّضتها، يومها لم يكن "حزب الله" قد وجد بعد، ولا كان هناك محور اسمه "محور الممانعة"، فبماذا إذن، يختلف حزب مذهبي مثل "حزب الله"، عن أحزاب الطوائف الأخرى في البلد؟ أليست الغالبية من أعضاء كلّ حزب من هذه الأحزاب، إن لم يكن كلهم، من ذوي الهوية الدينية الواحدة، المنغلقة على نفسها؟ حتّى "الحريرية السياسية"، التي كانت أكثر انفتاحاً من غيرها، كانت في العمق "سنّية" الطابع، كما "حزب الله" "شيعي" الطابع، وأحزاب أخرى، "درزية" الطابع، أو "مارونية" الطابع، أو "مسيحية" الطابع. أشير إلى هذه التصنيفات الطائفية مثل "مسيحي" و"شيعي" وما شابه، وأضعها بين "علامة الازدواج"، لأنّها غير وطنية، وضد التجانس الذي هو أساس أيّ وحدة وطنية، وأذكّر في هذا المقام، بشعار المعلم بطرس البستاني، "الدين لله والوطن للجميع"، علماً إن ليس كلّ من يقول عن نفسه إنه "مسلم" ويولّي وجهه شطر المسجد الحرام، هو مسلم حقاً، وليس كلّ من يدّعي إنه "مسيحي" ويقدم قربانه إلى المذبح، ويقول "يا رب يا رب" يدخل ملكوت السماوات، لأنّ "الله يريد رحمة ولا يريد ذبيحة"!

الدولة التي يرتكز دستورها على مبادئ المساواة والعدالة والحرية وسيادة القانون، هي الحل الذي لا حلّ غيره لأيّ بلد ينشد التطوّر، ولبنان الغاطس في الوحول، ليس استثناءً بالطبع


هناك أمر حول مفهوم السيادة، أودّ أن ألفت نظر الدكتور الشمّاعي إليه، ونظر من يرفعون رايات مناهضة للمحور المسمّى "محور الممانعة"، وهو أنّ السيادة لا يمكن أن تتحقّق في أيّ بلد، من دون تجانس اجتماعي وطني، ولا يمكن أن تتحقّق في بلد مثل لبنان، بمجرد الوقوف ضدّ المحور المذكور. السيادة مفهوم أوسع وأدقّ وأعمق من ذلك بكثير، إنجازها يتطلّب أن يكون الشعب حراً ومتحرراً من الأصوليات الدينية. لا يكفي أن نكون ضدّ حزب طائفي أو مذهبي، إذا كنا ننتمي إلى أحزاب طائفية أخرى، ونستخدم اللغة الطائفية ذاتها، ولبنان ليس حراً وديموقراطيا بالمعنى الحقيقي لمفهوم الحرية والديموقراطية، لذلك فإن انتماء المواطن فيه إلى حزب، ليس كانتماء المواطن في الدول الراقية. تحزب المواطن اللبناني هو تحزب محفوف بالمخاطر، لأنّ النظام الطائفي اللبناني، حوّل الشعب إلى قبائل دينية متساكنة، قائمة على العصبية وشدّ العصب، وأيّ موقف لمواطن فيه تحزّب لحزب معين، يعني شد عصب الحزب الآخر، أو عصب الطائفة الأخرى، وهذا ما يمكننا استخلاصه بسهولة إذا دقّقنا النظر في منطق القبائل وتاريخ القبائل عبر العصور. مهما يكن الأمر، فإنّ مفهوم "الخط السيادي" الذي يتحدث عنه من يرفعون شعاراته، لا يؤدّي إلى الغاية التي ينشدها المواطن اللبناني في قلبه وضميره، علماً بأن بعض من يقفون اليوم وراء هذا "الخط السيادي"، ويبدون "أصدقاء"، كانوا بالأمس أعداء بعضهم بعضاً، ويمكن في أيّ لحظة، إذا اقتضت مصالحهم الخاصة، أن يعودوا إلى المتاريس، ويشعلوا حرباً جديدة، وهذا كاف لوحده، ليجرّدهم، ويجرّد من هم مع "المحور الممانع"، من حق الكلام عن السيادة.

تبقى هناك مسألة تتصل بهوية لبنان وصورته وثقافته وإرثه الحضاري، وأنا مع القائلين إنّ "محور الممانعة" يغّير طبيعة هذه الهوية، ولا يخالطني في ذلك أدنى شك، لكني أعرف في الوقت نفسه، أنّ أي فريق يتمسّك بنظام أحزاب الطوائف، يشّوه هو الآخر، صورة لبنان الحضارية، الغالية على قلب كل مواطن شريف، وأقصد بالشريف، المواطن اللبناني الحر، المتحرّر من القيد الطائفي، وغير المنتمي لأيّ حزب من هذه الأحزاب العنصرية القائمة على النفاق واستغلال الأديان. هذا المواطن هو وحده، الجدير بأن يُقال عنه إنّه "مواطن صالح"، وهو وحده من يستحق لبنان، ويليق به لبنان، أمّا في ما يتعلّق بالآخرين المنتمين إلى أحزاب الطوائف، فهم أمّا متزلّفين لهم مصالح خاصة، أو خراف ضالة، لم يبلغوا بعد سن الرشد الوطني، ويشاركون من حيث لا يدرون، في جريمة خراب لبنان، والقضاء على هويته. وهنا أودّ أن أذهب في الحرص على هذه الهوية، إلى أبعد ممّا في وجدان دعاة القومية اللبنانية، أو القومية السورية أو القومية العربية، وأفهم لبنان بلدا ذا رسالة فريدة من نوعها في العالم، وأشدّد على هويته العربية، المتحررة من غلواء التدين، وعلى تراثه الكنعاني، الذي ما زال فاعلاً فينا، سواء شئنا ذلك أم أبينا، وعلى خصائص لبنان المتوسطية، وعلاقته الثقافية مع الغرب عموماً، والأوروبي منه بنوع خاص. ولا أجد من الكلام في هذا المقام، أجلّ وأبهى مما قاله عمر فاخوري في كتابه عن الحقيقة اللبنانية "إن أكرم ما يصدّر لبنان، أبناؤه في النوحي الأربع من الأرض، بناة المدن والسفن، المخاطرون غير مغامرين، المثقفون طبعاً وتطبعاً، المحافظون في غير تزمت، المجدّدون دون تعسف، مخترعو الأبجدية قديماً، وحضنة العربية حديثاً، أبناؤه السُّمر الميامين، حملة رسالته الثقافية في العالم".

من طالع سعد اللبنانيين، أنّ لبلدهم جمال فتّان، وطبيعة خلّابة فريدة من نوعها على "المتوسط"، وله من مكونات الحضارة، ما يجعل أيّ شعب لبلده ما للبنان، أن يفتخر به بين الأمم. هذه المكّونات، تراث عظيم نادر، لم يقدّره لبنان بعد حق التقدير، ولن يقوى به ويتألق، إلا ساعة يخرج من ثقافة القطيع والرعيان، إلى رحاب الحياة الحرة الكريمة، ويصبح سيداً على نفسه، ويسير في نظام يحفظ له هذه المكّونات، ويصونها من عبث منظومة حاكمة، هدفها التفرقة والسيطرة، والقضاء على أي أمل بقيام دولة علمانية، هي الدواء الناجع الوحيد الذي يخرج لبنان من عثراته، ويشفيه من أمراضه... وواهم من يعتقد، ان هناك حلّاً آخر غير هذه الدولة.