أيّاً كانت نتائج الردّ العسكري الإيراني على إسرائيل لقصفها القنصلية الإيرانية في دمشق، فإنّ لبنان والمنطقة باتا بعده غير ما قبله، وكذلك إيران نفسها باتت بعده غير ما كانت عليه قبله، والأمر نفسه ينطبق أيضاً على إسرائيل، التي يبدو أنّها استوعبت الردّ وتوعّدت. ولذلك فإنّ المنطقة بأزماتها ونزاعاتها ذاهبة إلى واقع جديد، لم تعد إسرائيل القوة الضاربة أو الرادعة فيه دون سواها.  

فإذا كانت إسرائيل، يقول مطّلعون، أرادت من حربها التدميرية التي تشنّها على قطاع غزّة بشراً وحجراً أن "تؤدّب" دول المنطقة، وتحذّرها من أنّها ستلقى المصير نفسه إن حاولت إحداها أن تستهدفها مثلما فعلت حركة "حماس" في عملية "طوفان الأقصى"، فإنّ البعض يقول إنّ إيران في "غزوتها" العسكرية الجوية لإسرائيل، ربما تكون أرادت هي الأخرى إفهام إسرائيل نفسها وبعض دول المنطقة التي تخاصمها أو لا تخاصمها بأنّها ستلقى المصير الإسرائيلي نفسه، إن هي حاولت مهاجمة الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومصالحها. الإيرانيون ينفون بشدّة وجود أيّ نيّات من هذا النوع مبيّتة لديهم من هجومهم الصاروخي على إسرائيل ضد أيّ من دول المنطقة، لكنّ ذلك لا يمنع كثيرين من الظنّ بوجود مثل هذه النيات، خصوصاً أنّ إيران كانت ولا تزال تعتبر نفسها معتدىً عليها منذ حرب الخليج الأولى التي شنّها عليها الرئيس العراقي السابق صدام حسين إثر انتصار الثورة الإيرانية باسقاط نظام الشاه محمد رضا بهلوي عام 1979.  

لم يكن ممكناً لإيران إلّا أن تردّ هي مباشرة على إسرائيل التي اعتدت عليها هذه المرة مباشرةً، عندما قصفت قنصليتها في دمشق وقتلت فيها قادة بارزين في "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري الإيراني (الباسدران)، فهي أرض إيرانية وفق القانون الديبلوماسي العالمي. ولكنّ هذا الردّ لم يستبطن رغبة في الذهاب إلى حرب مفتوحة أو في إدخال المنطقة كلّها في حرب من هذا النوع، بدليل أنّ طهران أبلغت إلى واشنطن ومعها العالم بأنّها ستردّ على الهجوم الإسرائيلي، وقالت ذلك علناً وعلى لسان أكثر من مسؤول إيراني، إلى درجة أنّ تركيا ودولاً أخرى قالت إنّها شاركت أو كانت في أجواء الاتصالات التي سبقت الرد الإيراني، بل إنّ وزير خارجيتها أمير حسين عبداللهيان اتصل بكثير من نظرائه في المنطقة والعالم مؤكّداً لهم الرد الإيراني مفنّداً أسبابه والمبررات، ومشدداً على أنّه يأتي ضمن القانون الدولي وليس خروجاً عليه. 

ليس في أوساط المقاومة مخاوف من ردّة فعل إسرائيلية ضدها أكثر مما تقوم به منذ 8 تشرين الأول إلى الآن، بدليل أنّ إسرائيل تستطيع أن تشنّ حرباً واسعة على لبنان إن أرادت ذلك في أيّ وقت من دون حاجة إلى ذريعة

سبع حقائق لا يمكن تغييبها 

لكن المهم أنّ الردّ الإيراني بمجرّد حصوله أنتج جملة من الحقائق التي لا يمكن التغاضي عنها أو تغييبها: 

ـ أولاً، إنّ إيران دولة عظمى في المنطقة وتمتلك من القدرات العسكرية ما يدفع دول المنطقة وجوارها من كلّ الاتجاهات والنِحَل والملل إلى أن تحسب لها ألف حساب.  

ـ ثانياً، إنّ إسرائيل لم تعد الدولة الأقوى في المنطقة، وإنّها في الأساس لم تكن كذلك، وإنّها غير قادرة على حماية نفسها من دون الدعم الأميركي والغربي، بدليل الإعلان عن أنّ القاعدة الأميركية في الأردن والقواعد الأميركية والبريطانية في المنطقة هي التي تصدّت للصواريخ والمسيّرات الإيرانية التي أطلقها الحرس الثوري الإيراني على إسرائيل تحت عنوان "الوعد الصادق". 

ـ ثالثاً، أثبتت إيران في ردّها مباشرة على إسرائيل وليس عبر حلفائها (حزب الله، حركة أنصارالله، المقاومة العراقية، وغيرها) أنّ هؤلاء ليسوا أوراق احتياط أو "أذرع" تستخدمها ساعة تشاء في نزاعات بينها وبين خصومها الإقليميين والدوليين، وإنّما هم قوى تملك حرية القرار ولا تدار من طهران، كذلك أثبتت طهران أنّها صاحبة قرار وقادرة على شنّ الحرب مباشرة ضدّ إسرائيل وضدّ كل من يتعرّض لمصالحها. 

ـ رابعاً، أرسى الردّ الإيراني قواعد اشتباك جديدة في المنطقة، ومنها أنّ طهران بعد اليوم ستبادر إلى الدفاع عن نفسها مباشرة من دون الاتكال على أيّ حليف أو صديق. 

ـ خامساً، أظهر الردّ الإيراني صلابة الاتفاق السعودي ـ الإيراني بدليل أنّ المملكة العربية السعودية لم تتدخل، ولم يوجّه إليها أحد أيّ اتهام بالمساهمة في إسقاط المسيّرات والصواريخ الإيرانية التي عبرت الأجواء السعودية وغيرها في اتجاه اسرائيل، وهذه الصلابة ستكون لها، مستقبلاً، تداعياتها المهمّة التي لن تجعل الرّغبة الإسرائيلية في التطبيع مع السعودية أمراً سهل التحقيق، بل على العكس سيزداد الموقف السعودي صلابة خصوصاً لجهة التمسّك بحقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلّة وعاصمتها القدس الشريف وفق مبادرة السلام العربية السعودية المنشأ. 

ـ سادساً، أعطى الرد الإيراني دفعاً معنوياً كبيراً للمقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، وكذلك في قطاع غزة، بحيث أنّه عمّق المأزق الإسرائيلي فيه إذ لم تستطع تل أبيب بعد نحو سبعة أشهر من السيطرة عليه، وإنهاء حركة "حماس" وأخواتها فيه وتفكيك قواها العسكرية التي يتبين يومياً أنّها ما تزال ناشطة وفعالة وتلحق بالدولة العبرية الخسائر اليومية. 

ـ سابعاً، لم تستطع إسرائيل تأليب المنطقة ضد إيران وحلفائها مجدداً، وذلك من خلال اللجوء إلى الحديث عن تمكّنها من "إحباط" الردّ الإيراني بواسطة "تحالف إقليمي" قاصدة بهذا التحالف دولاً عربية ساندتها في التصدّي للصواريخ والمسيرات الإيرانية، فيما هي في الحقيقة تريد من خلال ذلك إعادة إشعال الخلاف بين دول الخليج العربي وإيران، خصوصاً أنّها عملت منذ انتصار الثورة الإيرانية على تكريس مقولة إنّ "إيران هي عدوّة العرب" وليست هي التي اغتصبت أرض فلسطين وشنّت حروباً عدّة ضدهم واحتلت أراضي في مصر قبل اتفاق "كمب ديفيد" وما تزال تحتلّ أراضي في جنوب لبنان والجولان السوري. 

أين موقع لبنان؟ 

وبعيداً من كلّ هذه المعطيات، ثمّة سؤال طرح نفسه منذ اللحظة الأولى للرد الإيراني وبعد انتهائه وهو: أين كان موقع لبنان منه؟ وماذا سيكون عليه بعده؟ 

يردّ مطلعون بالقول إنّه لا يخفى على أحد أنّ ثمّة هجمات صاروخية شنّها حزب الله على قواعد عسكرية إسرائيلية في الجليلين الشرقي والغربي وفي الجولان السوري المحتلّ قبيل الهجوم الايراني بساعات، هدفت إلى تعطيل قدرة هذه القواعد وخصوصاً الجوية منها على التصدّي للمسيّرات وصواريخ الكروز والبالستية، وهي في طريقها من الأراضي الإيرانية إلى إسرائيل، مع العلم أنّ الحزب أدرج هذه الهجمات في إطار ردوده على الغارات الجوية والقصف المدفعي والصاروخي الإسرائيلي على العمق اللبناني وعلى القرى والبلدات الجنوبية. ويبدو أنّ الحزب نجح في ما سعى إليه بدليل أنّ الأميركيين والبريطانيين نسبوا إلى أنفسهم أنّهم "أسقطوا" غالبية المسيّرات والصواريخ قبل وصولها إلى أهدافها، ما دلّ إلى أنّ الدفاعات الجوية الإسرائيلية لم تكن بالقدرة والكفاية المطلوبتين لصدّ هذا الهجوم الإيراني الكبير. 

على أنه ليس في أوساط المقاومة مخاوف من ردّة فعل إسرائيلية ضدها أكثر مما تقوم به منذ 8 تشرين الأول إلى الآن، بدليل أنّ إسرائيل تستطيع أن تشنّ حرباً واسعة على لبنان إن أرادت ذلك في أيّ وقت من دون حاجة إلى ذريعة، حتّى أنّ قصفها للعمق اللبناني في البقاع وبعلبك عموماً لم يستدرج حزب الله إلى رد مماثل لتأخذ منه ذريعة للدخول في حرب واسعة ضده. فهي، حسب تقديرات مسؤولين في الحزب، لا ترغب، بل لا تقدر على شنّ مثل هذه الحرب، لكنها تعتقد أنّها في قصفها للعمق اللبناني يمكنها إعادة تكريس نفسها على أنّها ما تزال رغم كل ما جرى تمتلك "قوة الردع والسيطرة" في المنطقة، وأنّها كانت ولا تزال حاجة لا يمكن للولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الغربيين الاستغناء عنها. 

رد مضبوط ومردوع  

ولذلك يقول ديبلوماسي عريق إنّ الرد الإيراني كان متوقّعاً بقوة، لأنّه لم يكن لإيران من مفر منه، لكنّه جاء "رداً مضبوطاً" على إيقاع أنّ الجميع من كلّ الاتجاهات لا يريدون الدخول في حرب كبرى، فمثلما كان هناك كلام مع الأميركيين حول الأسباب الموجبة للردّ الإيراني كان هناك في المقابل كلام للأميركيين مع الإسرائيليين مفاده أن لا تؤدّي ردة فعلهم عليه إلى إشعال حرب كبرى في المنطقة. الأميركيون، يقول الدبلوماسي، منذ أكثر من 20 عاماً حتّى التطبيع الذي حصل في السنوات الأخيرة بين إسرائيل وبعض الدول العربية وقد يحصل لاحقاً مع دول أخرى، لا يحبّذون الدخول في حروب جديدة، وخصوصاً في هذه المرحلة إذ يرغبون بشدّة في حصول تطبيع بين السعودية وإسرائيل. والأوروبيون أيضاً لا يؤيدون الحرب، والإيرانيون أنفسهم لا يريدونها لأنّهم يعرفون أنّ كلفتها كبيرة. ولهذا لا أحد من اللاعبين الكبار على الساحتين الإقليمية والدولية يريد حرباً مفتوحة، وقد أُعطيت إيران حق الردّ ولكن بشرط أن يكون هذا الرد "مضبوطاً" أو "مردوعاً" عن التسبب بحرب واسعة في المنطقة. 

ويقول هذا الديبلوماسي يبدو "أنّنا دخلنا في مرحلة تدور المفاوضات خلالها وعلى سبل حفظ ماء الوجه للجميع وإخراج المنطقة مما آلت إليه. ففي غزة لم تتمكّن إسرائيل من تحقيق أهدافها بالقضاء على "حماس" التي عادت وفرّخت في المناطق التي انسحبت منها إسرائيل. وبنيامين نتنياهو الذي يدرك أنّه لا يستطيع البقاء 24 ساعة في السلطة إن توقفت الحرب، يفتش هو الآخر عن صيغة حلّ تحفظ وجوده. ولذا تتجه المنطقة عموماً، في رأي الديبلوماسي، للانتقال في المستقبل المنظور من مرحلة تصعيد إلى مرحلة تهدئة من شأنها أن تمكّن المعنيين من العثور على الحلول المنشودة للأزمة المفتوحة. 

الرئيس ليس الحل 

أما في شأن لبنان فإن الديبلوماسي العريق نفسه يستبعد إيجاد حلول جذرية لأزمته، فانتخاب أيّ رئيس جمهورية، في رأيه، هو جزء من الحلّ وليس الحلّ، وحتّى لو أنتخب هذا الرئيس غداً ماذا يمكن أن يفعل، وإن فعل فإنّه في ظلّ بقاء المنظومة السياسية السائدة لا يمكنه إجراء أيّ تغيير جذري أو إصلاحي. والبحث الجاري حالياً هو بين أطراف ليس لديها القدرة على اتخاذ القرار، وهذا القرار لن يصدر إن لم يحصل الاتفاق الدولي بين القادرين عليه. ولذا فإنّ الأزمة اللبنانية ماضية إلى مزيد من الجمود والانتظار ولا تغييرات متوقّعة، والإصلاحات المطلوبة غير ممكنة التحقيق في ظلّ المنظومة السياسية القائمة.  

لكن على رغم من هذه الصورة السوداوية أو المتشائمة التي يرسمها هذا الديبلوماسي، فإنّ الجميع يتطلّعون إلى المجموعة الخماسية العربية الدولية التي سيتحرك سفراؤها في وقت لاحق هذا الأسبوع، سعياً إلى تحقيق التوافق على آلية تفضي إلى انتخاب رئيس جمهورية عبر جلسات انتخابية بدورات متتالية، ولكن كلّ ذلك يجري فيما الرسائل التي يتلقاها الثنائي الشيعي عموماً وحزب الله تحديداً عبر قنوات متعددة تدعوه إلى وقف إطلاق النار على الجبهة الجنوبية وأن يأخذ في المقابل ما يريد رئاسياً واقتصادياً وإعمارياً، وفي قطاع النفط والغاز، فالمهم عند الغرب هو أمن إسرائيل قبل أيّ شيء آخر، وما دونه قابل للبحث والمساومة. وحسب مطّلعين، فإنّ حزب الله يتحدث، بناء على تجارب سابقة تعلّم منها، إلى المتصلين به عن حلّ متكامل ينقل لبنان عملياً إلى التعافي على كلّ المستويات. وهو لا يعارض الفصل بين ملفّ الاستحقاق الرئاسي وملف الجنوب وغزة، وإن كان يتمسّك بشدة بمطلب وقف الحرب على غزة شرطاً لوقف إطلاق النار على الجبهة الجنوبية، التي يضغط من خلالها على إسرائيل لكي توقف حربها التدميرية على قطاع غزة.  

قطوع خطير عبر 

يبقى أنّ لبنان تجاوز الأسبوع الفائت قطوعاً خطيراً نجم عن محاولات بعض السياسيين الاستثمار في جريمة قتل منسّق "القوات اللبنانية" في جبيل باسكال سليمان، من خلال تسويق أنّها جريمة اغتيال سياسي يتحمّل حزب الله المسؤولية عنها قبل أن يتبيّن من التحقيقات أنّ المغدور ذهب ضحية عملية سلب نفّذتها عصابة من مجموعة نازحين سوريين تم توقيف غالبية أفرادها بالتعاون بين الأجهزة الأمنية والعسكرية اللبنانية والسورية. لكنّ هذه الجريمة على بشاعتها أعادت طرح ملفّ النازحين السوريين بقوّة على بساط البحث داخلياً ومع الاتحاد الأوروبي، الذي يبدو أنّه يستعد لاتخاذ قرار على مستوى القمّة يؤيد عودة النازحين السوريين من دول أوروبية وغيرها إلى المناطق السورية التي يعلن عنها أنّها آمنة، وفي حال صدور هذا القرار يصبح ما كان دعا إليه الاتحاد من إسكان للنازحين ودمجهم في المجتمع اللبناني في خبر كان، وهذا ما يريده لبنان بشدّة معوّلاً على مبادرة قبرصية اطلع الرئيس القبرصي لبنان عليها خلال زيارته لبيروت الأسبوع الماضي، وسيدرسها الاتحاد على المستوى الرئاسي في اجتماعه بعد غد في بروكسل، ولاحقاً في مؤتمر للنازحين سيعقد خلال أيار المقبل.