الهجوم الدموي الذي استهدف صالة "كروكوس سيتي هول" في كراسنوغورسك بشمال غربي العاصمة الروسية في 22 آذار الجاري، وتبنّاه فرع "ولاية خراسان" في تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، أعاد تنبيه العالم إلى حقيقة أنّ الإرهاب لا يزال تحدّياً أساسياً للدول ولا يفرّق بين شرق وغرب. 

في اللحظة التي كان ينسحب فيها آخر الجنود الأميركيين من أفغانستان في آب 2021، فجّر انتحاري من "داعش-ولاية خراسان" عربة مفخّخة قادها إلى مشارف مطار كابول، ممّا أسفر عن مقتل مئة مدني من الأفغان الذين كانوا يحاولون الفرار من حكم "طالبان"، إضافة إلى 13 جندياً أميركياً. 

"داعش-خراسان" بدأ يثبّت أقدامه في أفغانستان منذ العام 2014 بالتزامن مع "الخلافة" التي أعلنها زعيم الفرع الرئيسي للتنظيم أبو بكر البغدادي في سوريا والعراق. و"ولاية خراسان" يقصد بها دول آسيا الوسطى وأفغانستان وباكستان وإيران. وضمّ التنظيم منشقّين عن حركة "طالبان" باكستان ومتطرّفين أفغاناً، قبل أن يستقطب عناصر من طاجيكستان وأوزبكستان وأقلّية الإيغور الصينية. 

وتمكّنت القوات الأميركية خلال وجودها في أفغانستان من محاصرة التنظيم في شرق أفغانستان، ليتغيّر هذا الوضع بعد الانسحاب الأميركي، وتبدأ مرحلة المواجهة مع "طالبان" بعد آب 2021. 

لا يقاس تشدّد "طالبان" بذاك الذي ينادي به "داعش-ولاية خراسان"، ويعتبر اليوم الخصم الأقوى للحركة منذ عودتها إلى الحكم. ويشنّ التنظيم المتطرّف هجمات دامية في مختلف أنحاء البلاد، مستهدفاً مساجد وتجمّعات أينما تسنّى له ذلك خصوصاً في الأحياء التي تقطنها أقلّية الهزارة التي تنتمي إلى المذهب الشيعي. ولم تنجُ السفارة الروسية ولا رعايا صينيون في كابول من الهجمات في العامين الأخيرين. 

وبنتيجة الحملة الواسعة التي شنّتها "طالبان" على "داعش-ولاية خراسان"، لم يستطع التنظيم السيطرة على أراضٍ محدّدة بعينها، وإنّما انكفأ شمالاً إلى حيث هناك حضور قوي للأقلية الطاجيكية التي ليست على وئام مع حكومة "طالبان". 

ومن الواضح أنّ حملة "طالبان"، وإن لم تتمكّن من استئصال "داعش-ولاية خراسان" من أفغانستان، فإنّها وجّهت إليه ضربة قوية، جعلته يفتّش عن ضربات خارج الحدود الأفغانية، كي يثبت جدارته في قيادة ما يطلق عليه "الجهاد العالمي". 

ويدعم هذا السياق، ما قاله قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال مايكل كوريلا خلال شهادة أمام لجنة الخدمات المسلّحة في مجلس النواب الأميركي في أوائل آذار الجاري من "أنّ داعش-خراسان وحلفاءه يحتفظون بملاذ آمن في أفغانستان، وهم يواصلون تطوير شبكاتهم داخل هذا البلد وخارجه...". 

إلى ذلك، حذّر تقرير للأمم المتحدة هذا العام، من أنّ عمليات "طالبان" لمكافحة "داعش-ولاية خراسان يبدو أنّها تركز على التهديد الداخلي الذي يشكّله التنظيم أكثر منه على عمليّاته الخارجية". 

وفعلاً، انتقل التنظيم إلى شنّ سلسلة من العمليات الخارجية في الأشهر الأخيرة. واستهدف انتحاري تجمّعاً سياسياً في شمال باكستان في تموز الماضي، مما أسفر عن مقتل 45 مدنياً. وتلا ذلك تفجير انتحاريين من "داعش-ولاية خراسان" حزاميهما الناسفين في مدينة كرمان بجنوب إيران في كانون الثاني الماضي خلال مراسم احياء ذكرى مقتل قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري قاسم سليماني بواسطة مسيّرة أميركية قرب مطار بغداد قبل أربعة أعوام. أسفر التفجيران عن مقتل 84 شخصاً وجرح المئات في ما اعتبر الهجوم الأكثر دموية في إيران منذ انتصار الثورة عام 1979. 

ليل الجمعة الماضي، كانت فرقة الروك الروسية "بيكنيك" تستعدّ لإقامة حفلة في "كروكوس سيتي هول" بضاحية كراسنوغورسك القريبة من موسكو، في إطار الاحتفالات بفوز الرئيس فلاديمير بوتين بولاية رئاسية خامسة في الانتخابات التي أجريت بين 15 آذار و17 منه. وهنا اختار "داعش-ولاية خراسان" توجيه ضربة دامية أوقعت 137 قتيلاً، بعثت بتحذير قوي إلى روسيا وإلى دول أخرى، من أنّ التنظيم عاد ليشكّل خطراً إقليمياً وعالمياً في زمن الحرب الروسية-الأوكرانية. 

عدم الحسم الروسي في مسؤولية "داعش"، أثار قلق الغرب من أن يوجّه بوتين حملة الانتقام من الهجوم ضد أوكرانيا.

لم يتأخّر التنظيم في إعلان مسؤوليته عن العملية. وقبل ذلك بساعات صدر بيان عن السفارة الأميركية مفاده أنّ واشنطن سبق أن حذّرت روسيا في السابع من آذار، من أنّ "داعش-ولاية خراسان" يعدّ لعملية على الأراضي الروسية. موسكو نفت أن تكون قد تسلّمت مثل هذا التحذير، وتروت في توجيه الاتهام إلى "داعش"، وترك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الباب موارباً أمام احتمال أن تكون أوكرانيا قد لعبت دوراً في الهجوم، عندما قال إنّ السلطات الروسية قبضت على المشتبه فيهم، بينما كانوا يهمّون بالعبور إلى الأراضي الأوكرانية حيث كان ينتظرهم أشخاص هناك. وعلى رغم إقرار بوتين لاحقاً بأنّ "متطرفين إسلاميين" نفّذوا الهجوم، فإنّ البحث لا يزال جارياً عن تلمّس خيوط تقود إلى أوكرانيا. 

عدم الحسم الروسي في مسؤولية "داعش"، أثار قلق الغرب من أن يوجّه بوتين حملة الانتقام من الهجوم ضد أوكرانيا. والناطقة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا أدلت بتصريح مليء بالدلالات الرمزية، عندما ذكّرت في معرض تشكيكها في الرواية الأميركية، بدعم واشنطن للتنظيمات الجهادية في أفغانستان في الثمانينيات، والتي أفرزت تنظيم "القاعدة" بزعامة أسامة بن لادن في ما بعد. 

ومن المعلوم أنّ "داعش-ولاية خراسان" دأب منذ تأسيسه، خلال حملاته الدعائية، على التركيز على روسيا ودورها في مساعدة الرئيس السوري بشار الأسد عام 2015 ضد التنظيم، فضلاً عن التذكير بالغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979. 

ومن المآخذ الأساسية التي يوردها "داعش-ولاية خراسان" ضدّ "طالبان"، هو أنّ الحركة تقيم علاقات جيدة مع روسيا. وهذا الشهر مثلاً وافقت موسكو على استقبال ملحق عسكري للحركة، في حين بقيت السفارة الروسية مفتوحة في كابول بعد الانسحاب العسكري الأميركي وإقفال معظم السفارات الغربية أبوابها هناك. 

ويعتبر "داعش-ولاية خراسان" أنّ "طالبان" تمارس "خيانة وطنية ودينية" عندما تتقرب من روسيا العدو السابق، وكذلك من خلال إقامة علاقات مع الصين. 

ويذهب التنظيم إلى أبعد من ذلك في العداء لروسيا، عندما يهاجم الرئيس الطاجيكي امام علي رحمون، بسبب إقامة بلاده علاقات مميزة مع موسكو. ثم لا ينسى التنظيم الدور الروسي الداعم لدول الساحل الإفريقي، مالي وبوركينا فاسو والنيجر في مواجهة فرع "داعش" في المنطقة. 

وإذا كان "داعش-ولاية خراسان" استغلّ الانشغال الروسي بالحرب الأوكرانية، كي يتمكّن من التسلّل وتنفيذ هجوم موسكو، فهذا لا يعني أنّ التنظيم يشكّل خطراً أقلّ على الغرب. 

ومع أنّ "خلافة داعش" في العراق وسوريا قد زالت عام 2018، فإنّ العناصر التي فرّت إلى ملاذات آمنة على جانبي الحدود السورية-العراقية، لا تزال تمثّل تهديداً أمنياً من خلال هجمات تشنّها بين الحين والآخر داخل العراق أو داخل سوريا، من دون تمييز بين أهداف عسكرية أو مدنية. والأحد الماضي، ذكّرت السفيرة الأميركية لدى بغداد ألينا رومانوفسكي بأنّ "داعش" لا يزال يشكّل تهديداً للعراق، بخلاف تأكيدات تصدر عن المسؤولين العراقيين. 

ولا يزال مخيم الهول في محافظة الحسكة السورية، وهو تحت حراسة قوات سوريا الديموقراطية "قسد" مدعومة بجنود أميركيين، يشكّل تهديداً أمنياً قد ينفجر في أيّة لحظة، وفق ما يحذّر خبراء غربيّون. هناك يتكدّس عشرات الآلاف من معتقلي "داعش" وعائلاتهم، وبينهم الكثير من الأجانب الذين ترفض دولهم استردادهم. 

إنّ هجوم موسكو لا بدّ أنّه أيقظ مجدداً ذكريات هجمات دامية شنّتها "داعش" في أوروبا، من قاعة حفلات "باتاكلان" وملعب "ستاد دو فرانس" في باريس في 2015، إلى مطار ومترو بروكسل عام 2016، ومطار اسطنبول ومدينة نيس الفرنسية وسوق الميلاد في برلين من العام نفسه، إلى ملهى في اسطنبول وحفلة غنائية في مدينة مانشستر البريطانية ومدينة برشلونة الإسبانية عام 2017. 

كلّ ذلك، يفترض أن يدفع بالدول إلى التعاون في مواجهة انبعاث الخطر الإرهابي من جديد، عوض الاستغراق في الاستقطابات الحادة.