اقتربت الساعة وبانت صفقة الحلّ المطلوب للأزمة اللبنانية على رغم كلّ ما يثار ويشاع عن حرب مدبّره آتية من فوهات التهديدات الإسرائيلية، والتي تحدّ منها المواقف الأميركية الرافضة لها، في الوقت الذي تكرّر إيران موقفها المعارض لتوسيع الحرب، في تلاقٍ لافت بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية يقال إنّه هو الذي منع في العمق ولا يزال يمنع دخول المنطقة في حرب شاملة.

وخلافاً لكلّ ما أشاعه البعض من أنّ الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين لن يعود إلى لبنان، ها هو الرجل قد عاد ليلتقي رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، مع العلم أنّ تواصله معهما لم ينقطع منذ زيارته الأخيرة بيروت لوجود قناة تواصل بينه وبين بري، في حين أنّ ميقاتي التقاه في الآونة الأخيرة مرّتين الأولى على هامش منتدى دافوس والثانية على هامش مؤتمر ميونخ للأمن العالمي خلال الشهر الماضي.

في الظاهر الحركة هي للمجموعة الخماسية من خلال سفرائها، لكن في الباطن الفعل هو لهوكستين الذي تتحرّك الخماسية على ضوء حركته، وقد فهم ميقاتي من سفرائها الخمسة الذين التقاهم يوم الجمعة من الأسبوع الماضي أنّ إنجاز الاستحقاق الرئاسي سيكون سريعاً، وأنهم متفائلون في هذا الاتجاه، فردّ عليهم قائلاً: "إنّكم بما تمثّلون تشكّلون قارب النجاة الذي يتطلّع إليه اللبنانيون ويجب عليكم أن تبقوا متضامنين في ما بينكم وأن تكونوا الداعمين للتواصل بين اللبنانيين حتّى يتفقوا على انتخاب رئيس جديد". حسب قول أوساطه.

ولكن دعوة ميقاتي هؤلاء السفراء الخمسة إلى أن يكونوا متضامنين إنّما جاءت في ضوء ما تلقّاه قبل اللقاء من معطيات عن واقع المجموعة الخماسية من أنّها ليست على قلب واحد في المهمة التي تضطلع بها، وذلك برغم نفي سفرائها وجود أيّ خلاف بدليل قول السفير المصري علاء موسى بعد اللقاء "إنّنا نتحرّك بعض الأحيان كلجنة خماسية وفي بعض الأحيان الأخرى نتحدّث بشكل ثنائي، ولكن في الوقت نفسه نعبّر عن وجهة نظر الخماسية". وقال: "إنّ الأمر بات ملحّاً لسرعة انتخاب رئيس، فالظروف التي يمرّ بها لبنان والمنطقة تدفعنا جميعاً سواء الإخوة في لبنان أو بمساعدة الخماسية لإنجاز هذا الاستحقاق". لكن موسى اعترف في الوقت عينه بوجود معوّقات لهذا الأمر بقوله: "إنّ العملية ( انتخاب رئيس الجمهورية) ليست بالسهولة ومعقّدة وتخضع للظروف المحيطة بها"، مضيفاً: "من الممكن أن نستكمل في الفترة المقبلة محادثاتنا ولقاءاتنا مع مختلف القوى السياسية للوصول إلى موقف والتزام واحد تجاه الانتهاء من هذا الاستحقاق في أقرب وقت ممكن". ومشدّداً على أن "موقف الخماسية واحد وهي تتحدّث بنفس واحد ولغة واحدة، ولا يوجد أيّة خلافات بين أعضائها". وقال "نحن نعتقد أنّه ليس بالضرورة أن يكون هناك ربط مباشر بين ما يحدث في غزّة ولبنان، ما يحدث في غزّة يؤثّر ليس على لبنان فحسب بل على كلّ المنطقة (...) ويجب أن يكون دافعاً أكبر للبنان من أجل الانتهاء من عملية انتخاب رئيس، لأنّه أمر في منتهى الأهمية والضرورة ليس الآن فقط، بل لأجل الأيام المقبلة وما ستشهده المنطقة من تحديات والتزامات توجب أن يكون في لبنان رئيس يتحدث باسمه".

عابرة للخماسية

ولذلك فإنّ مهمّة هوكستين، يقول المواكبون، تكاد تكون عابرة للمجموعة الخماسية، لكنْ بالتأكيد هناك طرفان فيها يعلمان ببواطن الأمور ويشاركان في إعداد صفقة الحلّ الموعودة، وهما الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية، اللتان يبدو أن موقفهما المتحفّظ أو غير الواضح في اجتماعات المجموعة الخماسية هو الذي يظهرها وكأنّها منقسمة على نفسها منذ اجتماعها الأول التأسيسي في شباط من العام 2023 في باريس وما تلاه من اجتماعات حتّى الآن، إذ كانت مواقفهما ولا تزال يغلب عليها طابع الانتظار في اعتبار أن نضج ما يطبخ في الكواليس، وذلك لأنّ واشنطن والرياض في النهاية لهما دالّة على بقيّة أطراف المجموعة أي مصر وقطر وفرنسا، رغم أنّ الاخيرة تحاول أن يكون دورها متقدّماً في اتجاه الحلّ من خلال حركة موفدها جان ايف لودريان الذي لم يعرف بعد ما إذا كان ما زال مصمّماً أم لا على المجيء إلى لبنان خلال الشهر الجاري، علماً أنّ البعض يعتبر أنّ زيارته إن حصلت فستكون "لزوم ما لا يلزم" في ظلّ المهمّة التي يضطلع بها هوكستين، والتي تركّز على إنجاز صفقة حلّ متكامل تمتدّ من حدود لبنان الجنوبية إلى الأزمة السياسية الداخلية بكل تشعّباتها الدستورية.

أنّ هناك توجهاً جدّياً لاعتماد خيار السفير مصطفى أديب مجدّداً

الرئاسة حسمت

وحسب مطّلعين على مهمّة هوكستين، فإنّ الشقّ المتعلّق برئاسة الجمهورية قد أنجز لمصلحة رئيس تيار"المردة" سليمان فرنجية، وأنّ البحث يركّز الآن على اختيار رئيس الحكومة الجديدة وماهية هذه الحكومة، وفي الوقت نفسه تمّ البحث في الترتيبات الأمنية التي ستّتخذ في الجنوب على أساس القرار 1701 بدءاً بتثبيت الحدود بإزالة اعتداءات إسرائيل عليها في النطاق 13 الموثّقة لدى لبنان والأمم المتحدة، بالإضافة إلى الانسحاب من خراج بلدة الماري (وهو القسم الشمالي من بلدة الغجر السورية) والانسحاب من مزراع شبعا وتلال كفرشوبا وفق صيغة تكون بضمان هيئة الأمم المتّحدة والولايات المتحدة الأميركية، التي ستضمن أيضا توقّف إسرائيل نهائياً عن انتهاك السيادة اللبنانية براً وبحراً وجواً بحيث لا تتكرّر هذه الانتهاكات، وكذلك تنفيذ القرار 1701 بإقامة المنطقة العازلة على جانبي الحدود، والتي يفترض أن تنتشر فيها قوات الفصل الدولية (اليونيفيل) فلا تكون من جانب الأراضي اللبنانية فقط، وفي هذه الحال لن يكون لدى حزب الله والمقاومة أيّ مشكلة في هذا الأمر، ما دامت هذه المنطقة العازلة سيعيش فيها السكّان في أمن وسلام بعيداً عن اعتداءات إسرائيلية تماماً مثلما يعيش سكّان المستوطنات الشمالية الإسرائيلية.

مصطفى أديب مجدداً؟

وبالعودة إلى موضوع اختيار رئيس الحكومة الجديدة، فإن مطّلعين على أجواء الاتصالات يؤكّدون أنّ هناك توجهاً جدّياً لاعتماد خيار السفير مصطفى أديب مجدّداً، إذ كان تمّ عام 2020 تكليفه تشكيل الحكومة إثر استقالة الرئيس سعد الحريري بعد أسابيع من "ثورة 17 تشرين الأول "2019، ثمّ أعيد تكليفه ليعتذر عن التأليف، فيكلّف أديب ويعجز عن تأليف الحكومة، ليكلّف الدكتور حسان دياب الذي تفجّرت حكومته نتيجة انفجار مرفأ بيروت ولم تعش طويلاً لاصطدامه ببعض أركان السلطة بسبب إصراره على ملاحقة مسؤولين في قضية انفجار المرفأ، ليكلّف بعده الرئيس نجيب ميقاتي الذي ما يزال على رأس الحكومة حتّى اليوم. والمفارقة هنا أنّ دياب وأديب كانا تقريباً من كنف ميقاتي إذ كانا يعملان معه في السياسة كما في مجال أعماله الخاصّة، مع العلم أنّ دياب كان عيّنه ميقاتي وزيراً للتربية في إحدى حكوماته فيما كان أديب يتولى مهمّة مدير مكتبه.

ويقول المتابعون إنّ صفقة الحلّ التي يمكن تسمّيتها "صفقة هوكستين" قد حسمت وستبلغ خواتيمها تقريباً وأنّ مجيء هوكستين الذي كان بشّر به ميقاتي إثر اجتماعه بسفراء المجموعة الخماسية يدلّ إلى أنّ هذه الصفقة بدأت تنضج بعناصرها من القرار 1701 إلى إقامة السلطة الجديدة التي سترعى التنفيذ على جانبي الحدود أساسها انتخاب رئيس جمهورية جديد، وإعطاء الولايات المتحدة لبنان الضمانات التي تمكّنه من الاستفادة من ثرواته النفطية والغازية في البر والبحر بعيداً عن أيّ معوّقات. وكان هوكستين قد اتّفق مع بري في زيارته السابقة على أنّه سيعود إلى لبنان عند بروز مؤشّرات إلى اتفاق جدّي على هدنة أو وقف لإطلاق النار في غزة، مؤكّداً أنّه لا يمكن الشروع في أيّ حلّ للبنان إلّا بعد توقّف الحرب في غزّة وعلى حدود لبنان الجنوبية، ويبدو أنّ إطلاق النار هذا سيتوقّف في بداية شهر رمضان الذي سيهلّ هلاله بداية الأسبوع المقبل.

وتفيد المعلومات المتداولة بأنّ إسرائيل وافقت على وقف الحرب خلال شهر رمضان مدّة 40 يوماً كمرحلة أولى تبدأ أول يوم شهر رمضان. وخلال التهدئة ستُفرج حماس عن 40 أسيراً إسرائيلياً من المدنيين من كبار السنّ والأطفال مقابل إطلاق إسرائيل 400 أسير فلسطيني وإدخال 60 ألف منزل متنقّل لغزّة (كرافانات) و120 ألف خيمة و500 شاحنة مساعدات إنسانية يومياً.

ويؤكّد المتابعون أنّ معارضة الولايات المتحدة الأميركية مشروع إسرائيل لشنّ حرب استباقية ضدّ حزب الله منذ اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى تدلّ إلى انغماسها في صفقة الحلّ الموعودة التي كان يعمل عليها هوكستين منذ تكليفه حلّ أزمة الحدود البرّية بين لبنان وإسرائيل بعد نجاحه في ترسيم الحدود البحرية بينهما خريف العام 2022 ولو لم يكن الأمر كذلك لكانت إسرائيل شنّت هذه الحرب منذ الأيام الأولى لحرب غزّة.

غير أنّ ما يسجله المتابعون هو أنّ هوكستين والمجموعة الخماسية لا يأتيان على ذكر رئيس الحكومة الجديد، ولكنّهما عندما انغمسا في الحراك الهادف إلى مساعدة لبنان على إنجاز استحقاقاته أكّدا مراراً أنّهما يعملان على أن يكون هناك حلّ متكامل للأزمة اللبنانية بحيث يشمل رئيسي الجمهورية والحكومة وتركيبة حكومية تنفّذ الإصلاحات البنيوية في كلّ المجالات السياسية والإدارية والاقتصادية والمالية التي يطالب بها المجتمع الدولي والمؤسسات المالية الدولية شرطاً لمساعد لبنان على الخروج من الانهيار.