لا أحد إلى الآن يملك تصوّراً واضحاً لما سيكون عليه اليوم التالي في غزّة، وتالياً في لبنان، وهو الجبهة الأخرى التي تصرّ إسرائيل على تطبيق ترتيبات عليها من ضمن تطبيق قرار مجلس الأمن 1701 تطبيقاً كاملاً. يجري التداول حالياً في مجموعة من الأفكار التي لم تتبلور بعد لليوم التالي في غزة. أمّا التطبيق الكامل للقرار 1701 فمختلـَف على تفسيره. يقول اللبنانيون إنهم سجّلوا لدى الأمم المتحدة شكاوى بثلاثين ألف خرق إسرائيلي للقرار منذ صدوره عام 2006 فيما يصرّ الإسرائيليون على إبعاد سلاح حزب الله ومسلـَّحيه عن حدودهم إلى شمال نهر الليطاني، وكأن عناصر حزب الله المسلـّحين ليسوا من سكّان القرى الحدوديّة، أو أنّ الحزب استوردهم من قارّة أخرى، أو كأن أطول مدى لأسلحته لا يتجاوز بضعة كيلومترات!!! 

الرئيس الأميركي جو بايدن هو أول من سأل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن اليوم التالي. حينذاك لم يكن لدى نتنياهو أي جواب. وهو لا يزال اليوم بلا جواب مؤكداً أنه لن يفكّر في الموضوع إلا بعد تحقيق الأهداف العسكرية للحرب، وهي تحرير الرهائن والقضاء على حماس وإزالة أي خطر مستقبلي يمكن أن تشكله غزّة على جنوب إسرائيل. وفي محيط إسرائيل من يرى أن السؤال سابق لأوانه باعتبار أن غزّة لا تزال مسرحاً لحرب شرسة بين الجيش الإسرائيلي ومقاتلي حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى المتحالفة معها.

من وجهة نظر أميركية، لا بد لليوم التالي من أن يتضمن مشروعا لمستقبل غزّة في إطار دولة فلسطينية. لكنّ المشكلة أن المزاج الإسرائيلي العام لا يتقبّل هذه الفكرة. وإذا كان التحالف اليميني الحاكم قبل السابع من تشرين الأول الماضي قد رفض الخوض في موضوع الدولة الفلسطينية في إطار حلّ الدولتين، فإنه يستبعد الفكرة نهائياً بعد هجوم السابع من تشرين، بل يخطط لتهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية أيضاً.

لم يعلن الأميركيون بعد تصوّرا أو خطة لإعادة إعمار غزة وقد أعلنت إسرائيل إنّها ستمنع إعادة إعمار غزّة قبل الاتفاق على مشروع شامل للمنطقة

وقد سأل الرئيس بايدن نتنياهو عن تصوّره لحكم غزّة بعد وقف القتال وعن إعادة الإعمار وتخفيف المأساة الإنسانية مقترحاً إعطاء دور للسلطة الفلسطينية. وكان جواب نتنياهو أنّ غزّة ستبقى تحت السيطرة الأمنية للجيش الإسرائيلي. ووضعت إسرائيل شروطاً قاسية لإدخال المساعدات لتخفيف المأساة الإنسانية وهي لا تتورّع عن الطلب من الدول العربية أن تأوي الغزّاويين الذين أجبرتهم على النزوح بعد تدمير أحيائهم ومنازلهم. وقد بدأت إسرائيل في الأسابيع القليلة الماضية تجربة في أحد أحياء مدينة غزة تأمل أن تعمّمها، وهي تسليم تسيير شؤون الناس إلى جماعة فلسطينية لا تمتّ بصلة إلى حماس ولا السلطة الفلسطينية ولا أيّ فصيل فلسطيني آخر.

من ناحية أخرى، لم يعلن الأميركيون بعد تصوّرا أو خطة لإعادة إعمار غزة وقد أعلنت إسرائيل إنّها ستمنع إعادة إعمار غزّة قبل الاتفاق على مشروع شامل للمنطقة. وعليه، فإنّ غزّة المعاد إعمارها ستكون مختلفة جداً عمّا كانت عليه.    

في هذا الإطار كشف أعضاء من وفد أميركي مشترك زار المملكة العربية السعودية وقطر والأردن ومصر وإسرائيل عن أنّ عدداً غير قليل من دول المنطقة يرفع الصوت اعتراضاً على الحرب في غزّة لكنه سرّاً يعبّر عن رضاه عمّا تقوم به إسرائيل للقضاء على حماس. ونقل أحد أعضاء الوفد عن مسؤول عربي لم يسمّه قوله "إن إسرائيل تقاتل عنّا في غزّة وإن تنجحْ تكنْ قد تغلّبت على إحدى أذرع إيران للمرة الأولى منذ أربعين عاماً." 

وقال عضو آخر في الوفد إنّه سمع من قادة دول عربية أنّ هذه الدول تركّز الآن على وضعها وأمنها واقتصادها وهي غير قادرة تحت وطأة الضغوط عليها أن تؤدّي دوراً فاعلاً في إعادة تشكيل المنطقة.

وقد سمع الوفد في إسرائيل كلاماً استنتج منه أن الرأي العام الإسرائيلي يوافق القيادة في أنّ لا تفكير في اليوم التالي الآن. ومع ذلك فإن بعض الأصوات الخافتة بدأت تشير إلى ضرورة بتّ المسألة سريعاً لأن "الثمن الذي ستدفعه إسرائيل سيكون اليوم أقل من ذاك الذي ستدفعه إذا أرجأت قرارها المتعلّق باليوم التالي،" باعتبار أن "النصر العسكري لن يكون كاملاً رغم التدمير الواسع ولن تستطيع أن تترجمه في السياسة في ظل الوضع الإنساني الناشئ في غزة والذي لا تستطيع أي دولة عربية تغطيته."

في هذه المرحلة تريد إسرائيل المضي في القتال ومن ثم التفرغ لاستكمال التطبيع مع المملكة العربية السعودية لأنها ترى في ذلك "السبيل الأفضل للخروج من عزلتها في المنطقة" كما ترى فيه "غطاءً استراتيجياً في حال حصول مواجهة بينها وبين إيران." لكنّ الوفد الأميركي سمع من المسؤولين السعوديين أنهم ليسوا متحمسين للتقدّم نحو التطبيع مع إسرائيل راهناً، وهم يريدون من الولايات المتحدة إقناع المسؤولين الإسرائيليين بدفع ثمن للمضي في التطبيع، والثمن هو وقف الحرب والاعتراف بدولة فلسطينية.  

هل ستضطرّ إسرائيل إلى وقف الحرب قبل تحقيق أهدافها المعلنة التي يرى الأميركيون إنها غير قابلة للتحقيق؟ وحين يتوقّف القتال، هل ستتراجع إسرائيل عن هدف اغتيال قادة الجناح العسكري في حماس؟ وهل سيفرج القائد العسكري لحماس يحيى السنوار عن كل الرهائن؟ هذه أسئلة في صلب تحديد ما سيكون عليه اليوم التالي، وهو في تصوّر الأميركيين يتضمّن دوراً للسلطة الفلسطينية بعد إعادة تأهيلها.

في بداية الأسبوع وضع رئيس الحكومة الفلسطينية محمد اشتيّه استقالة حكومته في تصرّف الرئيس محمود عباس، وليس معروفاً بعد من الذي سيكلّف تشكيل الحكومة الجديدة. لكنّ الأميركيين يصرّون على أن يكون أي رئيس مكلّف "مستقلاً، خبيراً في الاقتصاد، وشفافاً ماليا." وسيراقبون عن كثب من سيعيّن وزيراً للداخلية "لأنه سيكون مسؤولاً عن الأجهزة الأمنية،" ومن سيعيّن وزيرا للمال "باعتباره سيكون مسؤولاً عن النفقات والعقود وحسن انتظام مالية الدولة ولجم الفساد."

ولن يكتفي الأميركيون بذلك، فهم يريدون من السلطة الفلسطينية أن تجدّد الطبقة الحاكمة فيها وتتخلص من كل الذين طالتهم تهم بالفساد. ويريدون أيضا من الحكومة الجديدة أن تشرف على ورشة إصلاح جذرية لمؤسسات السلطة وطريقة عملها.

حين تضع الحرب أوزارها في غزّة وغير غزّة، تكون المنطقة على عتبة يومها التالي الذي تخاض معركته حاليا. ما هو وضع دول المنطقة؟ أي دولة ستكون صاحبة الدور الأكبر؟ وما هي أدوار كل من هذه الدول؟

ما يظهر الآن هو أن الدول المحيطة بإسرائيل وتلك التي تسمّي نفسها دول مساندة، غارقة في مشاكلها الداخلية ولا يمكنها – رغم قوة نارية كبيرة تزعم امتلاكها – أن تغيّر في المعادلة قبل تصحيح أوضاعها الداخلية.