يُنذر توسّع رقعة الحرب الهوجاء التي يقودها كيان العدو الإسرائيلي بحق لبنان، بالتوازي مع إبادة قطاع غزة في فلسطين، بنتائج وخيمة. من التداعيات الكبرى على الاقتصاد اللبناني انخفاض عائدات القطاع السياحي. وقد يتحوّل هذا التراجع من ظرفي إلى بنيوي في حال توسّع رقعة الحرب لتشمل البنية التحتية وامتد أمدها الزمني.

الخشية الكبيرة على القطاع السياحي لا ترتبط بهشاشته وتأثّره السريع بالأحداث الحربية فحسب، شأنه بذلك شأن كلّ القطاعات الخدماتية، إنّما بأهميته الكبيرة بالنسبة إلى الاقتصاد اللبناني. فهذا القطاع ساهم في العام الماضي بـ "26 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الرسمي"، بحسب وكالة "ستاندرد آند بورز"، أو ما يقارب 4.7 مليار دولار، إذا اعتبرنا أنّ الناتج المحلّي الإجمالي يقدّر بـ 18.2 مليار دولار، بحسب أرقام البنك الدولي. وهو بذلك يحلّ في المرتبة الثانية برفد الاقتصاد بالعملات الأجنبية بعد تحويلات المغتربين، التي قدّرت بحسب البنك الدولي أيضاً، بـ 6.4 مليار دولار. وفي ظلّ عدم ارتفاع قيمة الصادرات الفعلية أكثر من 2.7 مليار دولار. إذا ما استثنينا صادرات الذهب، ومع اضمحلال الاستثمارات الأجنبية المباشرة، فإنّ القطاع السياحي يعتبر الشريان الحقيقي للنمو الاقتصادي، والمحرّك الأكبر لفرص التوظيف.

خسائر السياحة

سريعاً، تراجع عدد الوافدين عبر مطار رفيق الحريري الدولي بنسبة 23 في المئة مع بدء المواجهات في جنوب لبنان في تشرين الأول من العام الماضي. ومع استمرار الحرب وتوسّع رقعتها منذ قرابة الخمسة أشهر، توقع "مركز مبادرة سياسات الغد للدراسات"، أن يكون عدد السياح قد تراجع إلى 300 ألف بين تشرين الأول 2023 وشهر شباط الماضي. في حين أنّ التقديرات كانت تشير إلى إمكان استقطاب لبنان 1.29 مليون سائح خلال هذه الفترة. وإذا بقيت نسبة تراجع أعداد الوافدين إلى لبنان منذ بدء الحرب موازية للأرقام المحقّقة في تشرين الأول الماضي، أي 23 في المئة، فإنّ قيمة الخسائر المادية تقدر بـ 450 مليون دولار"، بحسب المركز. وذلك بالاستناد إلى أنّ متوسط إنفاق السائح للزيادة الواحدة يبلغ 1500 دولار.

فقدان السياحة الأوروبية

"حتى لو توقّفت الحرب اليوم، وهذا ما لن يحصل بالنظر إلى كلّ المؤشّرات السياسية والأمنية، فإنّ ذيولها ستمتدّ إلى شهر نيسان"، بحسب رئيس نقابة المؤسسات السياحية البحرية جان بيروتي. و"سيواجه لبنان صعوبات على مدى العامين المقبلين، أقلّه في استقطاب السياح الأجانب عامة والأوروبيين خاصّة. وسيحرم من إمكانية عودة السياح الخليجيين. وستنحصر جنسية القادمين بالمغتربين من الوجهات القريبة، الذين تعيش أسرهم في ربوع الوطن، وبعض السياح من دول العراق والأردن وسوريا ومصر... وغيرها القليل من الوجهات التي لم تنقطع عن زيارة لبنان خلال السنوات الماضية وأصبحت تشكّل المصدر الأساسي للسياحة ".

وبحسب بيروتي، فإنّه "حتّى اللبنانيون في الدول الأجنبية، قد يستبدلون وجهات أخرى بلبنان خشية المخاطر الأمنية، وبسبب ارتفاع كلفة السفر. ولن يبقى إلّا بعض الوافدين من لبنانيين وسياح من أصحاب الإمكانات غير الكبيرة، الذين لا ينفقون على الإقامة في الفنادق واستئجار السيارات الفخمة والاستعانة بالأدلّاء السياحيين. وبالتالي يبقى المردود على الاقتصاد متواضعاً". ويقدّر بيروتي أن "تصل الخسائر المحقّقة في القطاع السياحي في العام 2024 إلى نحو ملياري دولار".

سريعاً، تراجع عدد الوافدين عبر مطار رفيق الحريري الدولي بنسبة 23 في المئة مع بدء المواجهات في جنوب لبنان

وخسارة الكفاءات

أمّا في حال عدم توقّف الحرب، فإنّ التعطيل سيتحوّل من ظرفي إلى دائم، ويخسر لبنان "كلّ الكفاءات البشرية التي نجح في إعادة استقطابها خلال العامين الماضيين"، بحسب بيروتي. و"هي اليد العاملة الماهرة التي تشكّل الأساس الذي يقوم عليه القطاع السياحي. وبدلاً من تخفيف الأعباء عن القطاع، تمّت دولرة كلّ الرسوم والضرائب. ووضع بعض أصحاب المصالح بين خيارين أحلاهما مرّ: إمّا الإقفال وتشريد العمّال والموظفين، وإمّا التخلّف عن دفع الضرائب. كثيرون فضّلوا الإبقاء على مؤسساتهم وتسديد رواتب عمالهم ونفقاتهم التشغيلية عوضاً عن دفع الضرائب". ولعلّ أخطر ما يحصل من وجهة نظر بيروتي "لا يتعلّق بتراجع العائدات، إنّما بتشجيع الدولة أبنائها عن الخروج عن الشرعية بسبب القرارات غير المدروسة التي تتخذ".

تراجع الاستثمار بالعقارات

بالتوازي مع تراجع القطاع السياحي تستمرّ الاستثمارات العقارية في التقهقر. فقد "سجّل شهر تشرين الأول 2023 انخفاضاً سنوياً في الصفقات العقارية بنسبة 60 في المئة على مستوى لبنان كله، وتراجعاً بنسبة 40 في المئة مقارنةً بمتوسط السنوات الـ12 السابقة، منذ العام 2011 إلى العام 2022. الأمر الذي يشير إلى شيوع حالة من التردّد بين المستثمرين، ولا سيما الأجانب منهم"، بحسب مركز مبادرة سياسات الغد للدراسات"، و"تُقدّر قيمة الخسائر الناجمة عن تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة 40 في المئة على مدى ستة أشهر بنحو 105 ملايين دولار".

الأعمال تخسر الاستثمارات

على الصعيد قطاع الأعمال، لا تبدو الأمور أفضل حالاً. فـ "من بعد "طوفان الأقصى" دخلت المؤسسات بحالة من الترقّب وعدم اليقين"، يقول رئيس شبكة الشركات العائلية ريكاردو حصري. و"جرى تأجيل كلّ القرارات المتّصلة بتوسّع الاستثمارات وضخ المزيد من رأس المال في المشاريع القائمة. وتجمّدت الاستثمارات الأجنبية. وعدنا إلى المربّع الأول الذي كنّا فيه عشية الانهيار الاقتصادي". ذلك مع العلم أنّ "الآمال على العام 2024 بتحسّن الأوضاع كانت كبيرة جداً. خصوصاً بعد التأقلم مع الأزمة وإيجاد الطرق الملائمة للاستمرار"، بحسب حصري. والمشكلة، برأيه "لا تنحصر بتجميد الأفكار الكبيرة، إنّما الصغيرة أيضاً والمتصلة مثلاً بقرار المشاركة في اجتماعات أعمال خارج لبنان خشية حدوث ما هو خارج الحسبان وإقفال المطار وصعوبة العودة. وجميع هذه العوامل الموضوعية والمعنوية تؤثّر بشكل سلبي جداً في قطاع الأعمال الذي تراجع نشاطه بشكل كبير جداً".

سيناريو الحرب الشاملة

كلّ هذا وما زلنا في سيناريو حرب جزئية، أمّا في حال نشوب حرب شاملة، "فستتعطّل قنوات التدفّقات الداخلية الأربع الرئيسية في لبنان. فتتوقف حركة السياحة بشكل شبه كلّي مع هبوط أعداد الوافدين بنسبة 90 في المئة على غرار ما حصل خلال حرب تموز 2006، ما قد يؤدّي إلى خسارة عائدات تُقدّر بحوالى 4 مليارات دولار في قطاع السياحة. فضلاً عن أنّ هجرة اللبنانيين من اليد العاملة الماهرة وانتقال الشركات، لا سيما الدولية منها، إلى الخارج سيؤثّران بشدّة على التدفقات المخصّصة لدفع رواتب الموظفين"، بحسب دراسة مركز مبادرات الغد. وقد بيّنت التجربة تضاؤل رواتب الموظفين في لبنان تدريجياً بعد حرب تموز 2006، إذ انخفضت بنسبة 55 في المئة في كانون الأول 2006 مقارنةً بما كانت عليه في كانون الأول 2005".

احتساب التراجع في مختلف القطاعات السياحية والصناعية والزراعية والخدماتية في حال حدوث حرب سيفوق الناتج المحلّي الإجمالي من حيث القيمة. بعبارة أخرى، سـ "يُصَفّر" النمو، ويتعمّق الانكماش والبطالة ويغرق اللبنانيون بمزيد من الفقر والعوز.