بات واضحاً أن "وحدة الساحات" تحوّلت إلى ساحتَين، واحدة لحرب الوجود بين الفلسطينيين وإسرائيل، وثانية لحرب النفوذ بين إيران وأذرعها من جهة والغرب والعرب من جهة أُخرى.

فالفلسطينيون والإسرائيليون يخوضون مواجهة دراماتيكية تحت شعار الحياة أو الموت، بدليل فداحة الخسائر البشرية في الجانبَين ومستوى ضراوة الحرب وأهدافها المستحيلة. وليست "حركة حماس" وفصائل أُخرى في غزة والضفة الغربية تدرك وحدها أنها تخوض معركة وجود، بل إسرائيل نفسها ترتطم بتعثّر العناوين العالية التي وضعتها، وتستشعر أن مصيرها مهدّد أيضاً، وأنها محكومة بتسوية أو حلّ للخروج من المأزق. وهذا ما سمّيناه سابقاً "الانهاك المزدوج" الذي يُجبر الطرفَين على الرضوخ لإرادة الحل الدولي حين تتظهّر خطوطه وخرائطه.

الحرب في الشرق الأوسط هي حرب مركّبة من حربَين وليست حرباً واحدة، ولو توحّدتا تحت عناوين وشعارات سياسية ذات طابع دعائي

أمّا إيران، واستطراداً "حزب اللّه" و"الحشد الشعبي" العراقي والحوثيون اليمنيون وسائر التشكيلات التي نشرتها "الجمهورية الإسلامية" في المنطقة، فإنها لا تعاني هذا القلق الوجودي، ولا تخشى أن يكون مصيرها الزوال كدولة إيرانية، أو ككيانات شعبية في لبنان والعراق واليمن، ولو كانت مهدّدة بالضعف أو الضمور السياسي وتغيير الأحجام والتوازنات.

لذلك، هي تخوض معركة نفوذ، ليس بالتحديد ضدّ إسرائيل بل في وجه القوى التي تضغط على هذا النفوذ وأبرزها الولايات المتحدة الأميركية، لأن الأولوية الإسرائيلية هي مكافحة السلاح الإيراني الذي يهدّدها، لعجزها الواقعي عن مكافحة نفوذ طهران في بعض الدول العربية، وعلى المستوى الإقليمي والدولي الأوسع.

وهذا ما يفسّر نكوص إيران عن الردّ على الضربات الموجعة التي توجّهها تل أبيب إليها، بالاغتيالات أو التدمير، وانصرافها إلى تنفيذ ردود في غير "الزمان والمكان المناسبَين"، سواءٌ في أربيل أو إدلب أو باكستان. وفي هذا السياق، يرقى ما كشفت عنه واشنطن إلى حد الفضيحة، حين أعلنت أنها أخطرت طهران بخطر حصول عمل إرهابي كما جرى في كرمان في محيط ضريح قاسم سليماني.

وهذا ما يُضيء على جانب من جوانب التنسيق الضمني بين الطرفَين خلافاً للعداء المعلَن، وتحت راية المفاوضات والتسويات في السرّ والعلن.

ويتعزّز هذا النهج لحماية النفوذ بتغييب الخطاب السياسي الإيراني التقليدي عن إزالة إسرائيل من الوجود، والاكتفاء بعقيرة إعلامية دعائية لا أكثر، بينما تركّز طهران على حماية شبكة مصالحها ونفوذها، عبر التجاذب المباشر بالمواجهة أو بالمفاوضات، سلباً أو إيجاباً، مع واشنطن وحلفائها من الخليج إلى البحر الأحمر والعراق، طالما أن سوريا مصنّفة على هامش "وحدة الساحات".

أمّا في لبنان فهذا التجاذب يتستّر تحت غطاء "المشاغلة" التي يتولّاها "الحزب"، وهي "مشاغلة" تصبّ في مجرى معركة النفوذ الإيراني أكثر ممّا تدعم مصلحة غزة، ولو ارتدت لبوس القضية الفلسطينية، مع توافق آراء المراقبين حول مجانية، أو على الأقل لا جدوى ما يفعله عبر الجنوب.

وفي إطار المواجهة حول النفوذ الإيراني تحاول طهران تحويل وظيفة "حزب اللّه" وعملياته المضبوطة إلى حلقة من حلقات الترتيبات التي تطمح إليها في المنطقة، ومن بينها الوضع السياسي اللبناني.

لكنها تصطدم لبنانياًّ بحاجزَين يحولان دون هذا الربط: حاجز داخلي تشكّله قوى المعارضة الرافضة للثمن الذي يريده "حزب اللّه" وإيران، وحاجز خارجي نصبته "اللجنة الخماسية" في رفضها مقايضة الوضع الجنوبي بالاستحقاق الرئاسي، وتكريسها الفصل بينهما، وتحديداً بين تنفيذ القرار 1701 وانتخاب رئيس للجمهورية. وهذا ما كنّا خصّصنا له مقالاً هنا في 17 كانون الأوّل الفائت تحت عنوان "الفصل بين الجنوب واستحقاقات الداخل".

وهكذا، فإن الحرب في الشرق الأوسط هي حرب مركّبة من حربَين وليست حرباً واحدة، ولو توحّدتا تحت عناوين وشعارات سياسية ذات طابع دعائي، وأبرز هذه الشعارات "وقف الحرب على غزّة" كشرط لوقف "المشاغلات"، فـ"وحدة الساحات" الحقيقية هي في الأساس خارج فلسطين، وهدفها الفعلي هو تثبيت مشروع النفوذ الإيراني التوسّعي، ولو باسترضاء الغرب والتقاطع مع إسرائيل، وليست غايتها تحرير القدس.