أظهرت الحرب التي شنّتها روسيا على أوكرانيا قبل نحو سنتين، والحرب التدميرية التي تشنّها إسرائيل على غزّة أنّ التقدّم التكنولوجي والذكاء الاصطناعي وتطويعهما لاكتساب الأفضلية في الحرب لم يغنيا المتحاربين عن إتقان استخدام أدوات الحرب التقليدية والتمّرس باستراتيجياتها. وقد تبيّن أنّها هي – وليس التكنولوجيا – عنوان قوّتها.

ويكاد الخبراء العسكريون من مختلف دول العالم ومدارسه العسكرية يجمعون على أنّ كِلا الحربين في أوكرانيا وغزّة خليط من التقنيّات الحديثة التي أعطيت في الثمانينيات اسم "حرب النجوم" ومن أساليب الحرب التقليدية التي لم تغيّر التكنولوجيا أساسيّاتها.

ما نجّح هجوم حركة حماس على غلاف غزة في جنوب إسرائيل في السابع من تشرين الأول 2023 هو دقّة التخطيط والتنويع في الأدوات والأساليب، والبراعة في التنفيذ، والانضباط في التنسيق الدقيق بين مختلف أدوات الهجوم، أي الغطاء الصاروخي للطائرات الشراعية والمسيّرات الصغيرة وتزامن اقتحام الجدار والسور الإلكتروني وتعطيل الكاميرات وأجهزة الاستشعار، وغيرها، إضافة إلى عنصر المفاجأة.

وقد ساهمت إسرائيل في إنجاح هجوم حماس. كيف؟

أولاً، استخفّت بقدرة حماس وسائر الفصائل في غزّة على التخطيط الدقيق والتنفيذ البارع والجريء.

ثانياً، استعاضت عن العنصر البشري في العمل الاستخباري بالتكنولوجيا.

ثالثاً، نقلت أعداداً كبيرة من الجنود من خطّ الحدود مع القطاع إلى الضفّة الغربية ومنطقة القدس لحماية المستوطنين.

رابعاً، وهو الأبرز، فشل القيادة السياسية الإسرائيلية في هضم المعلومات والاستنتاجات التي قدّمتها لها أجهزة استخباراتها والعمل بموجبها.

في المقابل، تلقّت إسرائيل دعماً غير محدود من الولايات المتحدة تمثّل بإرسال أكثر من عشرين شحنة عسكرية بالسفن والطائرات، والسماح باستخدام المخزون الاستراتيجي الأميركي من ذخائر المدفعية. دمّرت إسرائيل غزّة لكنّها لم تحقّق أهدافها العسكرية المعلنة، بسبب صلابة الدفاع عن القطاع وعدم حماسة الجيش الإسرائيلي للقتال وجنوحه نحو الانتقام.   

الحرب التقليدية التي لم تغيّر التكنولوجيا أساسيّاتها

بالانتقال إلى المسرح الأوراسي، فإنّ ما أفشل إلى الآن الحرب الروسية على أوكرانيا – والتي لا يزال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يصرّ على تسميتها عملية خاصة – هو ضعف المعلومات الاستخبارية وضعف التخطيط واستناده إلى حسابات سياسية واستراتيجية خاطئة، وضعف خطوط الإمداد والتموين، والنقص في التدريب، وعدم حماسة الجنود للقتال، مأ أجبر الروس على الاعتماد على الجيش الرديف، أي ميليشيا فاغنر.

في المقابل، أظهر أفراد الجيش الأوكراني حسّاً وطنياً وتشبثاً بالدفاع عن الأرض وقدرة على تطويع التكنولوجيا التجارية ووسائل الاتصال المتوافرة لأغراض عسكرية. وأظهروا أيضاً قدرة على التخطيط الدقيق واستغلال نقاط ضعف القوات الروسية. لكنّ أوكرانيا وجدت نفسها مقيّدة بمحدودية الأسلحة التقليدية وقذائف المدفعية والدبابات والأسلحة الصاروخية البعيدة المدى وغياب سلاح الطيران.

والاستنتاج الطبيعي من خلال هذين المثلين أنّ الأجيال الجديدة من الأسلحة التي أنتجت منذ التسعينيات، والتي تعتمد على سرعة تفوق أضعاف سرعة الصوت والتكنولوجيا الفائقة والاستشعار والتوجيه وتقنيات الاتصال قادرة على إصابة الأهداف والتدمير لكنّها لا تُربِح حرباً. فلا يزال الانتصار في الحرب بحاجة إلى قوات برّية بمشاة ومدرّعات ومدفعية تدفع العدو إلى الوراء أو تجبره على الاستسلام وتسيطر على الأرض وتمسكها.

والاستنتاج الثاني هو أنّ العنصر البشري لا يزال حاجة قصوى وأساسية في المجال الاستخباري، لا سيّما في التحليل وتوقّع تحركات الخصم.

وقد وضعت هاتان الحربان كتلتين دوليتين في مقابل بعضهما بعضاً بدون مواجهة مباشرة. المحور الأول تقوده الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي ويضمّ أستراليا وكوريا الجنوبية واليابان، أما الثّاني فيضمّ روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران.

وقد وجدت روسيا نفسها مضطرّة للاستعانة بحلفائها لسدّ النقص في ذخائر المدفعية والدبابات التي تحتاج إليها، والتي منعها ضعف اقتصادها والعقوبات المفروضة عليها من توفيرها. فروسيا تنتج مليونين ونصف المليون قذيفة مدفعية في السنة. وهي طلبت من كوريا الشمالية تزويدها بهذه القذائف. وقد وصل مجموع ما صدّرته كوريا الشمالية لروسيا في ثلاثة أشهر مليون قذيفة من عيار 152 ملم كراسنوبول – م2 (وهي النسخة الروسية لمدافع الميدان الغربية من عيار 155 ملم)، وهذا يعني نحو نصف الإنتاج السنوي الروسي في ربع سنة. وقد تمكّنت روسيا بفضل قذائف المدفعية المستوردة من كوريا الشمالية أن ترفع قصفها المدفعي على جبهة أوكرانيا إلى ما فوق عشرة آلاف قذيفة يوميا.

واحتاجت روسيا إلى أن تتزوّد من إيران بالمسيّرات البعيدة المدى. وقد صدّرت إيران آلاف المسيّرات إلى روسيا وبـَنـَتْ داخل روسيا سلاسل إنتاج لهذه المسيّرات. وفي المقابل، بدأت إيران تستفيد من تكنولوجيا حربية روسية متقدّمة تتضمّن لاحقا طائرات Su 35 التي يسمّيها حلف شمال الأطلسي Flanker E، وهي نسخة محدّثة من طائرة Su 27.

وما بدأت إيران تستفيد منه أيضاً هو أنّ مسيّراتها اختُبِرت في الميدان ضد عدّة أنواع من الدفاعات الجوية المستخدمة في أوكرانيا، ومنها أنظمة دفاع جوي روسية، وأخرى محلية الصنع وأخرى تابعة لدول في الحلف الأطلسي. وقد اختُبرت أيضا في الليل وفي النهار وفي مختلف الأحوال المناخية.

أما الصين ففشلت مراراً في الحصول على تكنولوجيا عسكرية روسية متقدّمة. لكنّها في السنتين الأخيرتين قدّمت لروسيا دعماً سياسياً حين وجدتها محشورة بسبب الحرب والعقوبات. وقد أدّى الدعم الصيني إلى بدء حصول الصين على بعض من التكنولوجيا التي كانت تريد الوصول إليها.

في ظلّ التعاون العسكري بين روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية، هل على الولايات المتحدة أن تقلق من تنامي خبرة إيران وتحوّلها إلى قوة إقليمية في الشرق الأوسط؟ أو من تفوّق روسيا في أوكرانيا، أو من أي تهديد صيني على تايوان مثلاً؟

يصبح هذا السؤال مشروعاً باعتبار أنً واشنطن في عهد الرئيس جو بايدن قرّرت أنّ الخطر الأساسي الذي يتهدد أمنها القومي هو الصين وعسكرة جنوب المحيط الهادئ وعسكرة الفضاء. وقد اعتبرت أنّ بؤر الصراع الأخرى، كالشرق الأوسط مثلاً، قادرة على احتواء ذاتها أو أنّها لن تشكّل تهديداً لجوارها. وعليه، لم تخطّط الولايات المتحدة لمواجهة حرب في أوكرانيا، ولا لاندلاع حرب بين إسرائيل وحماس، ولا لتحرّك عدّة جبهات في الشرق الأوسط لمساندة حماس وقيام تحالف دولي مناهض لها.

لكنّ الخبراء العسكريين الغربيين، وخصوصاً الأميركيين، يقولون إنّ الدوائر المعنية تراقب ما يجري، لكنّ الولايات المتحدة لم تقرع ناقوس الخطر بعد. ويقولون إنّ القوات الأميركية لم تعد تحارب بالمفهوم التقليدي للحرب. فهي تفضّل التركيز على تفوّقها الجوي وقدرتها الصاروخية الدقيقة البعيدة المدى وعلى الحرب الكهرومغناطيسية واستخدام الفضاء واللجوء إلى الحرب السيبرانية، لكي تتجنّب أكثر ما يمكنها إرسال جنود إلى أرض المعركة.

ويعتقد هؤلاء أنّ تغيّر النمط الأميركي للحرب هو الذي جعل الولايات المتحدة غير قادرة على مساعدة أوكرانيا إلّا بوسائل تقليدية لم تعد قوّاتها تعتمدها بشكل أساسي.

وقد بدأ تحوّل الاستراتيجية العسكرية الأميركية نحو خوض الحروب المقبلة بأجيال جديدة من الأسلحة مع الخطّة التي أعلنها القائد العام السابق للمارينز الجنرال ديفيد بيرغر في ربيع 2020 وقد سارت إعادة تأهيل هذه القوة بأسرع ممّا كان مخططاً لها. وفي صيف 2023، تحدّث قائد المارينز الجنرال إريك سميث عن الأنظمة الجديدة التي يودّ الإسراع في تزويد المارينز بها مثل نظام صواريخ أرض بحر المضادة للسفن NMESIS، ونظام راداري أرض جو موجه للمهمّات، ومركز طيران مشترك للقيادة والسيطرة، والمسيّرات ذات المدى الطويل المعدّلة ونسخة جديدة من طائرات النقل العسكرية.

ومع ذلك، يقرّ قائد قوات المارينز الحالي بالوكالة الجنرال كريستوفر ماهوني أنّ الانتصار في أيّ حرب لا يزال يحتاج إلى نشر قوات هجومية تمسك الأرض بعد أن تكون التكنولوجيا قد فعلت فعلها.