أثارت الضربات الصاروخية المتبادلة بين إيران وباكستان، الأسبوع الماضي، على جانبي الحدود في إقليم سيستان-بلوشستان الذي يتقاسمه البلدان، الكثير من التكهّنات حول الأسباب والدوافع خلف هذا التوتّر، قبل أن تقرّر طهران وإسلام آباد احتواء الموقف وإعادة تطبيع العلاقات.

على نحو مفاجىء، قصفت إيران في 16 كانون الثاني الجاري بالصواريخ والمسيّرات مواقع قالت إنّها تابعة لجماعة "جيش العدل" المتطرّف في إقليم سيستان-بلوشستان الباكستاني، ممّا دفع باكستان بعد يومين إلى الردّ بقصف صاروخي وباستخدام المقاتلات ضدّ جماعتين من المتمرّدين البلوش تتخذان الشطر الإيراني من منطقة سيستان-بلوشستان مقراً لهما. 

هذه المرّة الأولى التي تنتهك فيها الدولتان سيادة الدولة الأخرى بهذا الاتّساع، وعلى خلفية توتّر إقليمي يمتدّ من غزّة إلى جنوب لبنان والبحر الأحمر والعراق وسوريا، الأمر الذي غذّى المخاوف حيال احتمال فتح جبهة جديدة في جنوب آسيا. 

لم يكن في المرحلة الأخيرة، ثمّة شيء يوحي وجود توتّر في العلاقات بين طهران وإسلام آباد. والدليل على ذلك الاجتماع الذي عقده رئيس الوزراء الباكستاني الموقّت أنوار الحق كاكر مع وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان على هامش منتدى دافوس في سويسرا، قبيل الهجوم، الذي أتى أيضاً في الليلة ذاتها لقصف إيران بصواريخ باليستية، قالت إنه "موقع للموساد" في أربيل بشمال العراق، ومواقع لتنظيم "داعش" في سوريا. 

هذا التزامن في الهجمات الإيرانية دفع بعض المراقبين إلى الربط بين توتّر جبهات الشرق الأوسط والقصف على باكستان. بيد أنّ الأمور ما لبثت أن هدأت مع رصد كيف أنّ البلدين حرصا على توجيه الضربات إلى جماعات البلوش المعارضة لكلّ منهما، من دون المساس بأيّ موقع عسكري باكستاني أو إيراني. واتضح في ما بعد أنّ الحرس الثوري الإيراني استهدف "جيش العدل" بينما استهدف الجيش الباكستاني "جبهة تحرير بلوشستان" و"جيش تحرير بلوشستان" من دون إصابة أيّ موقع عسكري إيراني. 

وسهّل ذلك على البلدين التوصّل لاحقاً إلى أرضية لمعاودة الاتّصالات السياسية بعدما كانت إسلام آباد قرّرت عدم استقبال السفير الإيراني لديها وهو كان في زيارة لطهران، بينما استدعت إيران السفير الباكستاني وقدّمت إليه احتجاجاً على الضربات الباكستانية. 

عند هذا الحد انتهت مرحلة التوتّر وبدأت مرحلة الديبلوماسية، التي تمليها حاجة سياسية واقتصادية في كلا البلدين لعدم الدخول في حرب واسعة النطاق. 

الولايات المتحدة، خشيت من أن تكون الضربة الإيرانية مقدّمة لتصعيد غير محسوب في جنوب آسيا

وتتقاسم إيران وباكستان وأفغانستان منطقة سيستان-بلوشستان الواسعة والغنية بالثروات الطبيعية. وتخوض جماعات متمرّدة في المنطقة كفاحاً مسلحاً لنيل الاستقلال وإقامة دولة مستقلّة للشعب البلوشي. 

ففي الشطر الباكستاني من بلوشستان يستهدف المتمرّدون غالباً المصالح الصينية، كون المنطقة مجالاً للاستثمار الصيني وجزءاً من طريق الحرير الجديدة. كما أنّ الحدود الباكستانية-الإيرانية تمتدّ على مسافة نحو ألف كيلومتر بين شطري سيستان-بلوشستان. ونظراً لوعورة المنطقة، فهي تشهد عمليات تهريب دائمة، ويسهل على الجماعات المتمرّدة اختراقها في الاتجاهين. مثلاً، تمكّن "جيش العدل" من قتل 11 ضابطاً في الشّرطة الإيرانية في هجوم على موقعهم الشهر الماضي. وكان هذا من الأسباب الرئيسية التي دفعت طهران إلى تنفيذ الضربة الصاروخية داخل باكستان. 

و"جيش العدل" تأسّس عام 2012 على أنقاض جماعة "جند الله" المتطرّفة التي تلقّت ضربة قاضية بتمكن إيران من اعتقال زعيمها عبد الملك ريغي عام 2010، وهو في رحلة جوية إلى دولة في آسيا الوسطى، ومن ثم إعدامه. ويقال أنّ باكستان لعبت دوراً في مساعدة طهران في عملية الاعتقال. 

وكانت العلاقات بين باكستان وإيران تتسم عموماً بالواقعية، وغالباً ما مرّت بمراحل من الدفء، والمبادلات التجارية في تزايد، وبلغت ملياري دولار العام الماضي. واقتصرت أحياناً التوتّرات على مناوشات حدودية خلال مطاردة الجماعات المتمرّدة من الجانبين وملاحقة المهرّبين، من دون أن تبلغ ما بلغته من ضربات في العمق. 

أيقظت الضربة الإيرانية جملة من التوجّسات الباكستانية. أوّلاً، لا تريد إسلام آباد أن تجعل من التجرّؤ الإيراني سابقة تجعل الهند، الخصم التاريخي لباكستان، تتلمس نقطة ضعف لدى إسلام آباد التي تعيش توتّراً سياسياً حادّاً على أبواب الانتخابات التشريعية، الشهر المقبل، بينما الوضع الاقتصادي يمرّ بأزمة غير مسبوقة. ولم يستسغ الباكستانيون مسارعة نيودلهي إلى تأييد الضربات الإيرانية. 

ثانياً، تمرّ العلاقات الباكستانية-الأفغانية بأسوأ مراحلها. وكانت هناك خشية من أنّ عدم المسارعة إلى الردّ قد تحمل حركة طالبان أفغانستان على التدخّل أكثر فأكثر في الشؤون الباكستانية، وهي المتّهمة بدعم طالبان باكستان المناوئة للحكومة ومع جماعات باكستانية أخرى على نزاع مع إسلام آباد. وفي الآونة الأخيرة، عمدت السلطات الباكستانية إلى طرد جزء كبير من الأجانب، معظمهم من الأفغان، ممّا زاد في التوتّر مع كابول. 

ثالثاً، باكستان دولة نووية والجيش الباكستاني يتمتّع بهيبة واسعة لدى الناس. ولو لم يلجأ إلى الردّ لكان اعتبر ذلك انتقاصاً من كرامة المؤسسة العسكرية التي تُعدّ هي المحرّك الرئيسي للسياسات في البلاد. وبسبب العلاقة السيئة بين قائد الجيش الجنرال عاصم منير وزعيم حركة الإنصاف عمران خان، لا يزال الأخير يقبع في السجن مع منعه من الترشّح للانتخابات. 

وكادت تكون الصين، وهي الشريك التجاري الأول لإيران وباكستان، أوّل المتضرّرين من نشوب نزاع مسلّح بين البلدين. ولهذا كان هناك حرص صينيّ على التهدئة والعودة إلى الحوار. 

وحتّى الولايات المتحدة، خشيت من أن تكون الضربة الإيرانية مقدّمة لتصعيد غير محسوب في جنوب آسيا، وهي التي لا تريد انفجار حرب في جنوب آسيا في هذا التوقيت الذي تستعر فيه حربا غزّة وأوكرانيا. 

وفي نهاية المطاف، لعبت المصالح الوطنية في كلٍ من باكستان وإيران، الدور الرئيسي في جعل البلدين يعيدان حساباتهما ويفضّلان العودة إلى ما قبل الـ16 من كانون الثاني، وهذا هو عبد اللهيان يزور إسلام آباد الأسبوع المقبل، بينما سيعود السفير الإيراني إلى مركز عمله. ويطغى على نبرة المسؤولين في البلدين الحرص على طي صفحة التوتّر. 

الحرب ستشكّل استنزافاً للدولتين اللتين تعانيان ما يكفي من الاضطرابات السياسية والاقتصادية ومن توتّرات إقليمية. ولذلك، لجأ الجانبان إلى طريق الواقعية السياسية والتفاوض سبيلاً لحلّ المشكلات العالقة.