مثلما لغزّة يومها الآخر الذي يبحث فيه الإسرائيليون، فإنّ للبنان لديهم يومه الآخر الذي يبحثون فيه أيضاً، ولكنّهم يستعينون عليه بحلفائهم الأميركيين والأوروبيين الغربيين الذين بدوا في الآونة الأخيرة أن "لا شغل ولا مشغلة" إلّا الوضع على الحدود ونقل التهديدات الإسرائيلية للبنان بالويل والثبور وعظائم الأمور، متناسين رمال غزّة المتحرّكة التي يغرقون فيها ولم يحقّقوا "النّصر" الذي يبحثون عنه ثأراً من "طوفان الأقصى" الذي أفقدهم قوّة الردع ومعادلة "الجيش الذي لا يُقهر".

ولكن مثلما لإسرائيل "يومها الآخر اللبناني" الذي تبحث عنه وتريد أن يكون "عودة آمنة" لمواطنيها إلى المستوطنات الشمالية، فإنّ للبنان يومه الآخر الذي يريد وهو أن تنسحب من أراضيه المحتلّة وهي مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وخراج بلدة الماري (الجزء الشمالي من بلدة الغجر) والنقاط الثلاث عشرة المنتهكة على حدوده المرسّمة منذ العام 1923 من النقطة "B1" في الناقورة صعوداً إلى جبل الشيخ.

في هذا السياق كان اللافت ما قاله الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في في خطابه الأخير من أنّه "بعد طيّ هذه المرحلة ووقف العدوان على غزّة نحن أمام فرصة تاريخية الآن للتحرير الكامل لكلّ شبر من أرضنا اللبنانية". ولذلك يقول مسؤولون معنيّون إنّ لبنان أسمع مسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل ما يجب أن يسمعه عن "يوم لبنان التالي" بعد غزّة والجنوب، وهو أنّه غير مستعدّ للبحث في تنفيذ القرار الدولي 1701 قبل توقّف الحرب الإسرائيلية على غزّة، وقيام سلطة لبنانية جديدة بدءاً بانتخاب رئيس جمهورية جديد، وينبغي لأوروبا والولايات المتحدة والمجتمع الدولي عموماً أن تساعد لبنان عليه بعدما تم رُبِطَ هذا الاستحقاق أو ارتبط بأبعاد خارجية بات من الصعب إنجازه من دون الأخذ بها.

ولكن الجبهة الأساسية والمؤثّرة جداً التي سيسمعها لبنان شؤون يومه التالي بعد غزّة والجنوب هي الولايات المتحدة الأميركية ممثّلة بموفدها الرئاسي عاموس هوكشتاين الذي سيزور بيروت في أيّ وقت هذا الشهر في ضوء زيارته الراهنة لتل أبيب في إطار مساع يقوم بها في شأن تثبيت حدود لبنان البريّة تأسيساً على نجاح مسعاه السابق في تحقيق اتفاق على ترسيم الحدود البحرية. ولكنّه هذه المرّة يُصدم بحقيقة أنّ لبنان غير قابل للبحث في أيّ شأن يتعلّق بالحدود البريّة بطلب إسرائيل تنفيذ القرار 1701 وانسحاب حزب الله إلى شمال الليطاني (وهي الحجّة الإسرائيلية لتأمين عودة مستوطنيها إلى الشمال)، إلّا بعد انتخاب رئيس جمهورية جديد وقيام سلطة لبنانية جديدة.

وقد أبلغ لبنان هذا الموقف إلى هوكشتاين خلال زيارته السابقة والآن بواسطة بعض أصدقائه اللبنانيين المعروفين، وقد كان له لقاء في الآونة الأخيرة في واشنطن مع وزير الخارجية عبدالله بوحبيب قبيل توجهه إلى تل أبيب، فيما عاد بوحبيب ليلتقي المسؤول الأوروبي بوريل الذي التقى أيضاً رئيس مجلس النواب نبيه برّي ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي ومسؤولين في حزب الله، وقال قولته في ما يجب أن يكون عليه الوضع على حدود لبنان الجنوبية وهي "أنّ من الضروري جداً تجنّب جرّ لبنان إلى نزاع إقليمي" مخاطباً في الوقت نفسه إسرائيل قائلاً: لن يخرج أحد منتصراً من نزاع إقليمي".

على أنّ ما أثار قلق الأميركيين والأوروبيين ومخاوفهم من اتّساع رقعة الحرب كان اغتيال إسرائيل الرجل الثاني في حركة حماس صالح العاروري في عمق الضاحية الجنوبية لبيروت، المعقل الأساسي لحزب الله الذي توعّد بالردّ على هذه العملية وهو قصف موقع الجرمق الإسرائيلي في الجليل والمهمّ بالنّسبة إلى سلاح الطيران، معتبراً ذلك "ردّاً أولياً" على اغتيال العاروري.

الإدارة الأميركية باتت جادّة هذه المرّة في المساعدة على إنجاز الإستحقاق الرئاسي اللبناني

وهذان الخوف والقلق الأميركيان والأوروبيان عكستهما جولة وزير خارجية الأميركي انتوني بلينكن في المنطقة، في موازاة الاتصالات الناشطة التي تجريها نظيرته الفرنسية كاترين كولونا وجولة المسؤول الأوروبي بوريل في لبنان والمنطقة. فكلّ هؤلاء ينطلقون في مهمّاتهم ناقلين تهديداً إسرائيلياً بتوسعة الحرب انطلاقاً من جبهة لبنان، معتقدين أنّها "حسمت" المعركة لمصلحتها في غزّة وأنّها باتت متفرّغة لحزب الله وإيران وكلّ حلفائهما. بمعنى أنّها انتهت من "اليوم التالي لغزّة" وتحضّر لليوم التالي لحزب الله والمحور الذي ينتمي إليه، ليتبيّن أنّ كلّ هذا الحراك الأميركي ـ الفرنسي ـ الأوروبي ما هو سوى تمهيد لزيارة هوكشتاين للبنان بعد زيارة لإسرائيل بغية الوصول إلى اتّفاق على حلّ لموضوع الحدود البريّة وتحت عنوان التوسّط بين لبنان وإسرائيل لتنفيذ القرار1701.

لكن مثلما سمع بوريل من حزب الله أن لا بحث في القرار 1701 قبل وقف الحرب الإسرائيلية على غزّة وقيام سلطة جديدة في لبنان، سيسمع هوكشتاين الموقف نفسه ممّن سيلتقيهم، وفي مقدّمهم رئيسا مجلس النواب والحكومة، وسط اعتقاد مطّلعين على الموقف الأميركي أنّ الإدارة الأميركية باتت جادّة هذه المرّة في المساعدة على إنجاز الإستحقاق الرئاسي اللبناني.

ولذلك يقول البعض في هذا السياق أنّ مجرّد حديث السيد نصرالله عن وجود فرصة تاريخية للتحرير الكامل لكلّ شبر من الأرض اللبنانية المحتلّة، يؤكّد أنّ اتفاقاً سياسياً ـ أمنياً سيحصل في شأن لبنان عبر مهمّة هوكشتاين أو غيره، خصوصاً أنّ الأميركيين يدركون أنّهم منذ الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية لم ينفذوا ما التزموه من اتفاقات شفوية وتعهّدات قطعوها للبنان في المساعدة على إنجاز الحلّ السياسي لأزمته انطلاقاً من الاستحقاق الرئاسي، وقد أزداد هذا الحلّ تعقيداً بعد الإعلان عن فشل أو تفشيل شركة "توتال" في التنقيب عن الغاز في البلوك الرقم 9 وقبله في البلوك الرقم 4، وما رافق ذلك من كلام عن ضغوط أميركية مورست على"توتال" لإعلان نتائج من هذا النّوع.

ولذلك، يقول متابعون لحركة هوكشتاين أنّ الرجل آت قريباً إلى لبنان، بعد أن يكون توافر الحدّ الأدنى من النّجاح لمهمّته التي لن يقبل لبنان إلّا أن يكون وقف الحرب على غزّة وإنجاز الإستحقاق الرئاسي مدخلاً لأيّ حلّ. فبالنسبة إلى لبنان إنّ وقف الحرب على غزّة يوقف تلقائياً الحرب على حدود لبنان التي أشعلها حزب الله اسناداً للمقاومة الفلسطينية في غزة، ومنعاً لامتدادها إليه. وأمّا إنجاز الاستحقاق الرئاسي فإنّه يعني إقامة السلطة التي يمكنها تحمّل مسؤولية تنفيذ القرار 1701 على جانبي الحدود الجنوبية، وهذا التنفيذ لن يكون إلّا بانسحاب إسرائيل من كلّ المناطق اللبنانية المحتلة بما يحقق "فرصة التحرير الشامل" التي تحدّث عنها السيد نصرالله.