يجزم سياسي لصيق بالموقف الأميركي أنّ رئيس الجمهورية اللبنانية الجديد سيُنتخب خلال كانون الثاني الجاري بدفع ملحوظ من واشنطن، مشفوعاً بمعطيات إقليمية ستتبلور تباعاً من خلال حركة الرسل والموفدين والاتصالات الديبلوماسية الجارية في غير اتجاه، والتي تركّز على الحؤول دون توسّع حرب غزّة إلى المنطقة.

تدلّ كلّ المؤشرات والمواقف إلى أنّ انطلاقة السنة الجديدة ستكون رئاسية بامتياز، تتوّجها زيارتان للموفدين الرئاسيين الأميركي أموس هوكشتاين والفرنسي جان ايف لودريان. زيارتان حاصلتان حتماً هذا الشهر وبالتأكيد لن تكونا في الموعد نفسه، فلكلّ من الرجلين برنامج لقاءات خاص يختلف عن الآخر، وإن كانا يتقاطعان على مسألتين هما الاستحقاق الرئاسي والقرار الدولي 1701. والرجلان يأتيان إلى لبنان بعدما تمّ التمديد لقائد الجيش العماد جوزف عون الذي ركّز عليه لودريان جداً في زيارته الأخيرة، ما حال دون وقوع فراغ في القيادة العسكرية.

على أنّ ما سيُعجّل بزيارة هوكتشاين التي توقّع البعض أن تكون في العاشر من الجاري على وقع جولة لوزير الخارجية الأميركي انتوني بلنكن في المنطقة، هو الحراك الرئاسي الذي سيقوم به رئيس مجلس النواب نبيه بري مستنداً إلى معطيات داخلية وفّرتها مناخات الجلسة التشريعية الأخيرة، وخارجية وفّرتها اتصالاته ولقاءاته مع سفراء وموفدين عرب وأجانب جعلته يشعر أنّ أوان "الحصاد الرئاسي" قد اقترب، وأنّ في أجواء لبنان والمنطقة ما بات يشجّع على الاستعجال في تركيب سلطة لبنانية جديدة طال انتظارها، حتّى لا يأتي أيّ تطوّر إيجابي أو سلبي في الخارج على حساب لبنان. فالحرب الإسرائيلية التدميرية على غزّة لا بدّ أنّها ستنتهي عاجلاً او آجلاً، والوضع السائد على حدود لبنان الجنوبية مرتبط بها، مع فارق أنّ ضغوطاً كبيرة تمارس في غير اتجاه لمنع توسّع الحرب في ظلّ الذريعة الإسرائيلية القائلة بأنّ سكّان المستوطنات الشمالية يرفضون العودة إلى منازلهم ما لم يزل "خطر" وجود حزب الله على مرمى حجر منهم، وهو خطر يرى البعض أنّ إسرائيل تبالغ فيه لنيل مكتسبات على مستوى القرار 1701 بدليل أنّ المواجهات الدائرة على الجبهة الجنوبية تتوقّف بمجرّد توقّف الحرب في غزّة، بدليل أنّها توقّفت عندما تمّ التوصّل إلى الهدنة الأولى بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، وجرى خلالها إطلاق مجموعات من الأسرى.

فمنذ عملية "طوفان الأقصى"، يقول المتابعون للحرب الإسرائيلية على غزّة، يتركّز همّ الولايات المتحدة الأميركية ودول الغرب عموماً على إنقاذ إسرائيل من تبعات الهزيمة التي منيت بها بنتبجة هذه العملية، وما شكّلته من زلزال ستكون له ارتداداته الكبرى على مستقبل إسرائيل ووجودها. لذلك وفيما تحاول الدولة العبرية، من خلال الدعم الديبلوماسي والعسكري الذي تلقاه، القضاء على حركة "حماس" وأخواتها في قطاع غزّة حتّى ولو أدّى الأمر إلى تدميره بشراً وحجراً، تسعى الديبلوماسية الأميركية والغربية بطلب إسرائيلي في الوقت نفسه إلى تأمين ترتيبات أمنية لتل أبيب على الحدود مع لبنان تحت عنوان تنفيذ القرار 1701، لتأمين "عودة آمنة" لنحو أكثر من مئة ألف مستوطن إلى المستوطنات الشمالية، تحت طائلة التهديد بشنّ حرب تدميرية على حزب الله ولبنان واحتلال منطقة جنوب نهر الليطاني وإقامة "حزام أمني" جديد فيها، على غرار ذلك الحزام الذي كانت تقيمه سابقاً بعد اجتياحيْها للبنان عامي 1978و1982 قبل أن تنسحب منه عام 2000 تحت ضربات المقاومة، التي لاحقتها على مدى سنين احتلالها الذي راح يتراجع تدريجياً من بيروت إلى صيدا عام 1982 ثم من صيدا إلى الليطاني عام 1985 إلى انسحابها كلّياً عام 2000، ومع أنّها حاولت تجديد احتلالها لجنوب الليطاني عام 2006 فشلت وانهزمت على رغم من الدمار الكبير الذي ألحقته بلبنان وبناه التحتية في تلك الحرب.

فيما يضغط الأميركي على إسرائيل في اتجاه أن لا تنفّذ تهديداتها ضدّ لبنان، يضغط الإيراني على واشنطن في المقابل في اتجاه أن توقف إسرائيل حربها على غزّة

ويقول سياسيون متابعون لمسار الأحداث إنّ الفارق بين هوكشتاين ولودريان هو أنّ الأول ينقل التهديد الإسرائيلي بطريقة ديبلوماسية، ثمّ يستمع إلى ردود محدّثيه ومطالبهم ويناقشها معهم، وهو قد ينقل هذا التهديد مرّة أخرى في زيارته الجديدة ليبحث مع من سيلتقيهم في سبل إزالة هذا التهديد.

في حين أنّ لودريان ينقل التهديدات الإسرائيلية باجتياح جنوب لبنان بطريقة "فجّة وصريحة" كما يقال "في الأدبيّات السياسية اللبنانية" ما يدلّ إلى أنّ الفرنسيين باتوا بمثابة ناقلي رسائل وليس صانعي حلول، في ظلّ إمساك الجانب الأميركي المحكم بكلّ أوراق المنطقة، متصدّراً الدفاع عن إسرائيل التي قال الرئيس جو بايدن عنها غداة "الطوفان" إنّها "إذا لم تكن موجودة علينا أن نوجدها". ولأنّ الأميركي هو الآمر النّاهي ويشغل الآخرين من حلفاء وغير حلفاء يمون عليهم لمصلحة مشاريعه في المنطقة، سيسبق هوكشتاين لودريان في زيارة لبنان حتّى يكون تظهير أيّ حلّ، رئاسياً كان أم حدودياً، على يد الأميركي دون سواه، وسيحاول التوصّل مع لبنان إلى ما يمنع توسّع الحرب من الجنوب، والاتفاق على صيغة لتنفيذ القرار 1701 تكون بوّابته الإستحقاق الرئاسي.

ولكنّ الجانب اللبناني سيفاجىء هوكشتاين عند طرحه المطلب الإسرائيلي بتنفيذ القرار 1701 في أنّ لبنان قدّم للأمم المتّحدة ومجلس الأمن الدولي عشرات آلاف الشكاوى ضدّ إسرائيل لخرقها هذا القرار منذ صدوره عام 2006. كذلك سيفتح الجانب الليناني مع هوكشتاين دفتر حساب حول ما جنته بلاده وإسرائيل من الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية الذي تمّ برعايته وإشرافه، و"الصفر المكعّب" الذي جناه لبنان في المقابل. وفي السياق سيطلب لبنان من هوكشتاين ما كان يجب على الولايات المتحدة الأميركية أن تفعله بعد الاتفاق البحري وهو المساعدة على تحقيق الحلّ السياسي الداخلي لإقامة السلطة اللبنانية الجديدة عبر دفع حلفائها إلى الخروج من دائرة الاعتراض والاندماج في هذا الحلّ الذي يبدأ بانتخاب رئيس جمهورية لتتكوّن هناك السلطة الدستورية التي تستطيع الاضطلاع بتنفيذ القرارات والمواثيق الدولية، ومنها القرار 1701 الذي لم تلتزمه إسرائيل أصلًا حتّى تطالب لبنان الآن بتنفيذه.

وطبعًا، يقول السياسي اللصيق بالموقف الأميركي، أنّ أولوية هوكشتاين في زيارته المنتظرة ستكون البحث في سبل تجنّب الحرب الإسرائيلية على لبنان، وطريقة إنجاز الاستحقاق الرئاسي، وسيقول للذين سيلتقيهم إنّه "إذا كان انتخاب رئيس للبنان يجنّبه الحرب فلا مانع لدينا في المساعدة على تأمين انتخاب هذا الرئيس".

وهنا، يقول السياسي نفسه، سيكون على هوكشتاين أن يفعل ما فعله مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون السياسية السابق توماس شانون عندما زار لبنان في أول أيلول 2016 ليومين، وتمكّنت واشنطن بعدها من رفع "الفيتو" السعودي عن ترشيح العماد ميشال عون لينتخب رئيساً للجمهورية في 31 تشرين الأول بانحياز حلفاء السعودية إليه، ويومها ابلغت الرياض موقفاً إلى من يعنيهم الأمر، أي إلى المسؤولين والقوى السياسية هو أنّ انتخاب رئيس للبنان هو شأن اللبنانيين، وهم يتحمّلون مسؤولية اختيارهم، فإن أصاب هذا الرئيس سيتعاون معه الجميع في الداخل والخارج، وإن لم يصب على اللبنانيين دون سواهم أن يحاسبوه.

على أنّ هوكشتاين يدرك أنّ "اليوم" الرئاسي اللبناني الآن هو أشبه بـ"البارحة" أي باستحقاق العام 2016، فالمعادلة لم تتغير وهي أنّه باعتراف الجميع في الداخل والخارج لا يمكن الإتيان برئيس جديد لا يقبل به "الثنائي الشيعي" عموماً وحزب الله وحلفاؤه تحديداً. واليوم يتمسّك "الثنائي" بدعم ترشيح رئيس تيّار "المردة" سليمان فرنجية وليس في وارد التخلّي عنه، وقد ازداد تمسّكاً به جداً بعد عملية "طوفان الاقصى" وما تلاها ولا يزال من تفاعلات ومواقف، خصوصاً في الداخل اللبناني بعد اشتعال جبهة الجنوب تحت عنوان "مساندة" المقاومة الفلسطينية في غزة.

وبمعزل عن المواقف الداخلية المعارض منها والمؤيّد، فإنً ترشيح فرنجية يواجه "فيتو" تضعه المجموعة الخماسية العربية ـ الدولية عموماً، والمملكة العربية السعودية خصوصاً، مع العلم أنّ الرياض أعلنت مراراً بعد بدايات الاستحقاق الرئاسي أنّها لا تضع "فيتو" على أيّ مرشّح وأنّ هذا الأمر هو شأن داخلي لبناني لا ينبغي لأحد غيراللبنانيين التدخّل فيه.

ويرجّح السياسي اللصيق بالأميركيين أنّ هوكشتاين عندما سيطرح مع المعنيين موضوع تنفيد القرار 1701 سيقولون له إنّ حزب الله لن يكون في وارد البحث في هذا الأمر إلّا في وجود رئيس للجمهورية يثق به ويطمئنّ إليه، فإذا تمّ انتخاب مثل هذا الرئيس يمكن عندها البحث في تنفيذ القرار الدولي على جانبي الحدود، وليس من جانب واحد مثلما تطرح إسرائيل.

وفي هذه الحال، يقول هذا السياسي، سيكون على هوكشتاين أن يقتدي بطريقة سلفه شانون فيعمل بالتعاون مع إدارته على رفع "الفيتو" الخماسي والسعودي عن ترشيح فرنجية، وهو المرشّح الذي يُطمئِن "الثنائي الشيعي" وحلفاءه وحتّى آخرين، حتّى إذا نجح في ذلك وانتخب الرجل خلال الشهر الجاري يبدأ البحث في تنفيذ القرار 1701، ومن ضمنه تثبيت حدود لبنان البرّية المرسّمة بريطانياً منذ العام 1923 بإزالة التعدّيات الإسرائيلية على 13 نقطة فيها، ابتداءً من نقطة الـB1”" في النّاقورة صعوداً إلى مزارع شبعا وتلال كفرشوبا.

على أنّ رفع "الفيتو" الخماسي والسعودي (والخماسي يزول تلقائياً بزوال الفيتو السعودي) عن فرنجية إذا حصل، قد لا يعود قبول "التيار الوطني الحر" شرطاً لازماً لفوزه، فكلّ حلفاء الخماسية والسعودية سيبادرون إلى انتخابه، وستكون الرياض أوّل عاصمة عربية وأجنبية سيزورها الرجل، ليس تيمّناً بما فعله الرئيس ميشال عون، وإنّما تفعيلاً لعلاقة تاريخية كانت تربط بين آل فرنجية والعائلة السعودية المالكة، وتسييلاً لهذه العلاقة في تطوير وتعزيز العلاقة التاريخية بين لبنان والمملكة العربية السعودية، والتي لخّصها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز عام 1993 بكلمتين خلال خطاب له في الرياض لدى افتتاح ملتقى رجال الأعمال اللبناني ـ السعودي أيّام الرئيس الراحل رفيق الحريري، إذ قال: "ما من سعودي إلّا وله صديق لبناني".

ثمّة معلومة تتوّج كلّ هذه المعطيات وهي أنّ تواصلاً مباشراً أو غير مباشر، حصل ويحصل على ما يبدو بين الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية الإيرانية من خلال وزيري خارجيتيهما انتوني بلينكن وحسين أمير عبداللهيان، ويرشّح من هذا التواصل حتّى الآن أنً هناك تلاقياً في الموقف بين الجانبين على ضرورة الحؤول دون توسّع الحرب، وفيما يضغط الأميركي على إسرائيل في اتجاه أن لا تنفّذ تهديداتها ضدّ لبنان، يضغط الإيراني على واشنطن في المقابل في اتجاه أن توقف إسرائيل حربها على غزّة لأنّها هي التي تهدّد بتوسّع الحرب في الجنوب اللبناني وإلى جبهات أخرى.