ما يميّز هذه الانتفاضة أنّها تحصل في معقل طائفة الموحّدين الدروز، التي طالما تجنّبت الصدامات مع النّظام، وعُدّت موالية له، من هنا بقيت المحافظة الجنوبية بعيدة إلى حدّ ما من مشاهد العنف والدمار التي شهدتها بقية الأراضي السورية خلال الحرب

ما يحدث في السويداء ليس هبّة عابرة، فجّرتها الأوضاع المعيشية المزرية التي تجتاح المناطق السّوريّة، بل هو حصيلة كمّ هائل من التراكمات وعجز السياسات الأمنية والعسكرية عن اجتراح حلول، واستفحال العصبيّات المذهبية والطائفية التي أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه في العشرية الماضية. فالأمور تتفاقم منذ كانون الثاني 2020، مع تظاهرات "بدنا نعيش"، ووصلت اليوم إلى لحظة النّزول إلى الشارع، والمطالبة برحيل الرئيس بشار الأسد من دون ان ترفع علم "الثورة السورية" المثير للجدل والانقسام في تلك المنطقة المحافظة. وما يميّز هذه الانتفاضة أنّها تحصل في معقل طائفة الموحّدين الدروز، التي طالما تجنّبت الصدامات مع النّظام، وعُدّت موالية له، من هنا بقيت المحافظة الجنوبية بعيدة إلى حدّ ما من مشاهد العنف والدمار التي شهدتها بقية الأراضي السورية خلال الحرب.

أمام دمشق سيناريوات عدّة للتّعاطي مع هذه الهبّة التي لا يمكن أن تصنّف بأنّها ثورة

في هذا الحراك خرق بعض مشايخ عقل الطائفة الدرزية ما يندرج في خانة "الخطوط الحمر" بالنسبة للسلطات في دمشق، لاسيّما مع دعوة الشيخ حكمت الهجري إلى الجهاد ضدّ ما أسماه الاحتلال الإيراني و"حزب الله". وزاد الأمر اثارة بموافقته على تلقّي اتّصال من السيناتور الأميركي فرينش هيل، الأمر الذي أثار مخاوف السّلطات في دمشق من أمر مدبّر خارجيّاً، لاسيما في ظلّ مؤشرات تدلّ على وجود جهات تعمل على ربط احتجاجات السويداء مع ملف الجنوب السوري، حيث يكثر الحديث عن رصد تحضيرات أميركية على الحدود السورية العراقية لضبط تهريب السلاح وتحجيم النّفوذ الإيراني في بلاد الشام. وأظهرت بيانات أصدرتها كلّ من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، محاولة فجّة لاستثمار التظاهرات، في استكمال لمحاولات بدأت بوضوح مع أول احتجاجات شهدتها المدينة قبل نحو شهر، ووصلت إلى حدّ ربط ممثّلة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، بين ما يجري في السويداء وما جرى في درعا عام 2011، على اعتبار أنّ المحافظتين تقعان جنوب سوريا، علماً أنّ السويداء التزمت الحياد طوال السنوات الماضية ولم تنخرط في أيّ مظاهر معارضة أو احتجاجية من قبل.

أمام دمشق سيناريوات عدّة للتّعاطي مع هذه الهبّة التي لا يمكن أن تصنّف بأنّها ثورة، أوّلها التزام الصّمت والانتظار حتى يصاب المحتجون بالملل ويفقدوا الزخم، أو منح السويداء ودرعا شكلاً من أشكال اللامركزية والتسيير الذاتي، وإمّا الخيار الأمني فدونه حسابات معقّدة كثيرة وهو أكثر الخيارات استبعاداً.

ومع ذلك لا يمكن للسلطات أن ترفع عينها عمّا يجري في جبل العرب، خشية أن تشجّع انتفاضة السويداء مناطق أخرى في سوريا على الالتحاق بموجة الاحتجاجات ولاسيما في مناطق الساحل التي تلوح فيها أيضا نبرة الاحتجاج. ومن شأن حراك الدروز أن يضعف مقولة النظام بأنّه حام للأقلّيات، ما يفقده ورقة قوّة في تسويق نفسه داخلياً وخارجياً.

وقد تُدخل احتجاجات السويداء المسألة السورية مرحلة جديدة لا يمكن لدمشق التغافل عنها، إن في حالة الاضطرار إلى مواجهتها بالقوّة والقبضة الحديد، أو بمحاولة استمالة أطراف فيها بتقديم وعود وإغراءات تعطي المحافظة امتيازات خاصّة، الأمر الذي قد يشجّع محافظات أخرى على أن تحذو حذو السويداء. كما للأمر تداعياته على مسار التطبيع العربي مع دمشق ذلك أن تفاقم الاحتجاجات قد يظهر أنّ الاستقرار في مناطق النظام "وهمي ومبني على التخويف وليس على الاقتناع"، خصوصا أنّ الأردن التي تضطلع بدور المفاوض العربي الأبرز مع دمشق، معني بشؤون السويداء المحاذية لحدوده الشمالية والتي يشترك دروزها مع دروز الأردن كما مع دروز لبنان ودروز الجليل بروابط قوية وشديدة الحساسية.

السويداء، تتمتّع بخصوصية تتعلّق بموقعها الجغرافي في الخاصرة الجنوبية لسوريا (قرب الأراضي المحتلة) والديني (امتداداتها الدينية نحو لبنان والجولان السوري المحتل والجليل الأعلى)، لذا ليس مستغرباً أن تتركّز بعض المساعي الخارجية على استثمار ما يجري فيها ودفعها نحو إنشاء "إدارة ذاتية" رغم عدم وجود أصوات عالية في المدينة تنادي بالانجرار إليه، أقلّه حتّى الآن.