بحسب بيان وزارة الخزانة الأميركية فإنّ سلامة "تورّط في أنشطة فاسدة وغير قانونية، ساهمت في انهيار دولة القانون في لبنان".

استفاق العالم، بتوقيت نصف الكرة الشمالي، على خبر إدراج الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة على لوائح العقوبات الأميركية المتعلّقة بالفساد. لم يكد يمضي عشرة أيام على انتهاء ولاية استمرت ثلاثين عاماً، "راقص" فيها سلامة "العملة الخضراء" على حافّة "هاوية" الليرة، حتى سقط مضرّجاً بـ "دماء" عجزه عن التّعامل بالدولار. إنّها سخرية المخطّط، أو عدالته، التي جنّبت لبنان مخاطر فرض العقوبات على رأس السلطة النقدية وهو في سدّة الحاكمية.

بخبر ظلّ حتى الأمس القريب مستبعداً، أعلنت وزارة الخزانة الأميركية، أنّ الولايات المتّحدة وكندا وبريطانيا فرضت سويّاً عقوبات اقتصادية بتهم فساد مالي على الحاكم السابق للبنك المركزي اللبناني رياض سلامة. إضافة إلى معاقبة أربعة من المقرّبين منه، هم: ابنه ندي، وشقيقه رجا، ومساعدته ماريان الحويّك وصديقته الأجنبية آنا كوزاكوفا. وتنصّ العقوبات الأميركية على تجميد كل الأصول التي يملكها هؤلاء المعاقبون الخمسة في الولايات المتّحدة. كما تُمنع كل الشركات الأميركية والمواطنين الأميركيين من إجراء أيّ تعاملات تجاريّة معهم. وبحسب بيان الوزارة فإنّ سلامة "تورّط في أنشطة فاسدة وغير قانونية، ساهمت في انهيار دولة القانون في لبنان". وقد "أساء استغلال موقعه في السّلطة، في انتهاك للقانون اللبناني على الأرجح، لإثراء نفسه وشركائه، من خلال تحويل مئات الملايين من الدولارات عبر شركات وهمية لاستثمارها في قطاع العقارات الأوروبي".

توسيع "بيكار" الملاحقات

لم تُضف وزارة الخزانة الأميركية من خال اتّهام رياض سلامة بالفساد ما يجهله اللبنانيون وثلاثة أرباع سكّان المعمورة. فالحاكم ملاحق قضائياً في الدّاخل والخارج، منذ العام 2020. الدولة اللبنانية مُدّعية عبر هيئة القضايا في وزارة العدل على الحاكم في لبنان، وفي الدول الأوروبية. وذلك من أجل حفظ حقّ الدولة وإمكانية استرجاع الأموال المصادرة المنقولة وغير المنقولة في حال إثبات التّهم. وعلى صعيد الخارج يقوم القضاء في العديد من الدول الأوروبية هي سويسرا، فرنسا، وليختنشتاين، لوكسمبورغ وألمانيا بإجراء تحقيقات جنائية بحقّ سلامة. وتتنوّع التّهم الموجهة إليه من تبييض أموال بأكثر من 330 مليون دولار من مصرف لبنان المركزي، واختلاس، وصرف نفوذ ورشاوى. وقد أصدر الانتربول مذكّرة توقيف بحقّه في أيار الفائت، نتيجة تخلّفه عن حضور جلسة استماع في فرنسا.

التداعيات

بعيداً عن المسار القانوني الشّائك والمعقّد، فإن ما يهمّ اللبنانيين هو انعكاس مثل هذه العقوبات على الوضعين النّقدي والاقتصادي. خصوصاً أنّها تتعلّق بحاكم المصرف المركزي، وليس بصرّاف أو رجل عادي. "الأكيد أنّها لا تؤثّر على مصرف لبنان وتعاملاته، ولا على الّدولة اللبنانية، كون الحاكم انتهت ولايته ولم يعد في سدّة المسؤولية"، يقول مصدر متابع. "ومن المرجّح أن يكون التّأخير بفرض العقوبات مع ما تحمله من نتائج سيّئة على الكيان المفروضة عليه، مردّه إلى تحييد الدّولة اللبنانية وعدم التأثير عليها. ذلك أنّ فرض العقوبات قبل انتهاء الولاية كان سيترك تداعيات وخيمة على السّلطة النّقديّة في البلد. وعلى تعاملات القطاع المصرفي برمّته مع الخارج". وبرأي المصدر فإنّ "صدور العقوبات وسلامة لا يزال في مركزه، كانت ألزمته بالاستقالة حتماً. وهذا ما كنّا نتمنّاه. لأنّه لم يكن مقبولا أن يمضي سلامة ولايته حتّى نهايتها من دون حساب أو رادع ويخرج بـ "طنّة ورنّة" رغم كلّ الإرتكابات المتّهم بها، وما تركت سياساته النّقديّة من آثار سلبيّة على الوضعين الاقتصادي والاجتماعي".

العقوبات الأميركية على أهميّتها المعنويّة والمادّيّة، خيبّت آمال كثر في توقيتها. فالمساعي التي بذلت من قبل ناشطين وجمعيّات حقوقيّة ومودعين وأصحاب شأن وعلاقة، من أجل محاسبة حاكم مصرف لبنان وإخراجه من سدّة المسؤولية ولو قبل يوم من انتهاء الولاية، باءت بالفشل. وبرأي المصدر فإنّ "إقالة الحاكم قبل فترة، كان ليوفّر على البلد الكثير من المشاكل. حيث حمل استمراره في عمله تطوّرات سلبية يومياً؛ سواء كان بإصدار أو تعديل التّعاميم الاستنسابية، أو التعديلات في الميزانية ومراكمة الديون على الدّولة، أو التّأثير سلباً على سعر صرف الليرة من خلال منصّة صيرفة، واستمرار المخطّط بتذويب الديون بالتضخّم وانهيار القيمة الشرائية للعملة الوطنية. ذلك مع العلم أنّ الخروج الآمن، نسبياً، لم يجنّب البلد الخضّات النّقديّة، ولم يسمح بتعيين حاكم أصيل وتغيير السياسات التي كانت متّبعة بشكل جذري".

نجاة لبنان من مشكل أكبر

بالنّظر إلى عناد الحاكم وتشّبثه المطلق ببراءته من جهة، وإصرار المنظومة على حمايته حتى الرّمق الأخير، لم يكن من المتوقّع تقديم استقالته، أو إجباره عليها، فيما لو فرضت العقوبات وهو لا يزال حاكماً. ولعلّ هذا ما أخذته وزارة الخزانة الأميركية بعين الاعتبار. "ذلك أنّ من شأن العقوبات على حاكم أصيل أن ترتّب إدراج لبنان على اللائحة الرمادية فوراً لتبييض الأموال من قبل مجموعة العمل المالي. ورفض توقيع الحاكم على المعاملات، وقطع المصارف المراسلة علاقاتها مع نظيرتها اللبنانية ومصرف لبنان... وغيرها الكثير من المترتّبات السلبيّة"، برأي المصدر.

الإدراج على لائحة "مكتب مراقبة الأصول الأجنبية" المعروفة بـ OFAC ليس تفصيلاً. فالمكتب عبارة عن "وكالة استخبارات ماليّة في وزارة الخزانة في الولايات المتّحدة. يدير ويفرض عقوبات اقتصادية وتجارية لدعم الولايات المتحدة لأجل أهداف الأمن القومي والسياسة الخارجية. ومن النتائج التي ستترتّب على العقوبات منع رياض سلامة من فتح حسابات مصرفية أو التّعامل بوسائل الدفع غير النقدية (شيكات، بطاقات، تحويلات..) في لبنان ومع الخارج. وتعريض أيّ فرد أو كيان يتعامل معه للعقوبات. حجز كلّ الأموال المنقولة وغير المنقولة الموجودة في أميركا وكندا وبريطانيا. منعه من دخول الولايات المتّحدة. هذا فضلا عن السّمعة السيّئة.

التدقيق الجنائي "زيت" على "نار" العقوبات

بالتزامن مع العقوبات الأميركية على رياض سلامة، كان الوزراء في حكومة تصريف الأعمال يتسلمون التّقرير النّهائي للتدقيق الجنائي في مصرف لبنان، الذي كلفت بإجرائه شركة "الفاريز آند مارسال". ومما يتبيّن من معطيات أنّ سياسة الحاكم من العام 2015 ولغاية 2020، وهي الفترة المدقّق فيها، حافلة بالمخالفات والتجاوزات لأصول المحاسبة ومهام المصرف المركزي. وأنّ هندسات رياض سلامة أدّت إلى "إفلاس" المصرف المركزي، وكانت سبباً رئيسيّاً في تعريض لبنان لواحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية.

وسنكون غداً مع مقال مفصّل حول التقرير النّهائي للتدقيق الجنائي في مصرف لبنان، يبيّن أبرز المخالفات وانعكاساتها.