بعد كلّ أزمة مالية أو هزّة اقتصادية كان رياض سلامة يخرج إلى النّاس مطمئناً أنّ الليرة بخير حتى لم يعد للخير مكان، فطارت قيمة الليرة وأخواتها من المئات والآلاف... 

ساعات قليلة ويغادر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة منصباً شغله على امتداد ثلاثين سنة. لم يؤمّن الإتفاق السياسي التّمديد لولايته مرّة جديدة رغم استمرار المحاولات لذلك حتّى اللحظة الأخيرة. بخروجه من مصرف لبنان تسدل الستارة على عهد من الحريرية السياسية المالية، ويفقد أركان السلطة أحد أدواتها ممن كان يمدّ لها يد العون ليرسّخ حضورها حتى بقيت المنظومة وانهار البلد.

بعد كلّ أزمة مالية أو هزّة اقتصادية كان رياض سلامة يخرج إلى الناس مطمئناً أنّ الليرة بخير حتى لم يعد للخير مكان، فطارت قيمة الليرة وأخواتها من المئات والآلاف. لم تهزّه انتفاضة 2019 ولم تحرّك له ساكناً، وخرج بعدها يحاضر عن انجازات مصرف لبنان وايجابيات خطواته الإنقاذية. ثلاثون سنة من تطمينات وهمية انتهت بخروج آمن له، وخراب محتّم للبلد وضياع أموال الناس من دون سؤال أو محاسبة، ومن يحاسب من؟ وكلّهم في الخراب شركاء وحتّى السلطة القضائية بأدواتها.

وبينما كانت الأنظار مشدودة إلى ما سيقوله في آخر إطلالاته الإعلامية كحاكم لمصرف لبنان، أطلّ سلامة متحدّثاً بلغة الحاكم بأمره محافظاً على هدوئه المعتاد والذي قلّ نظيره. وخلال المقابلة التي أعدّت على مقاسه وتناغمت مع ما يريد قوله، بدا سلامة في عالم آخر يردّد عباراته المعتادة ويلقي المسؤولية على الكلّ.

وفي وقت كان سلامة يرتّب أوراقه استعداداً لمغادرة مكتبه في مصرف لبنان محتفظاً بمفاتيح العمل الأساسية، كان نوّابه ولاسيما الأوّل من بينهم "وسيم منصوري" منشغلاً في طلب ضمانات تؤهّله لتسلّم منصب الحاكم بالنيابة بعدما فشلت المحاولة الأخيرة لتعيين خلف لسلامة .

ليس معلوماً ولا من المؤكّد أنّ الهدف من انعقاد جلسة للحكومة يوم أمس كان هدفه تعيين خلف لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. كلّ الأجواء والمعطيات السياسية لم تكن تشي بوجود بيئة سياسية حاضنة للتعيين. خرج رئيس مجلس النواب نبيه بري عقب استقباله رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي مبشّراً أنّ الحكومة ستعيّن خلفاً للحاكم الحالي، ويدعو ميقاتي بعده بدقائق حكومته للإجتماع لهذه الغاية. لم يكن يحتاج الأمر لأكثر من دقائق لتظهر استحالة تنفيذ الخطوة في ظلّ انعقاد مجلس وزراء غير مكتمل التمثيل ميثاقياً لغياب وزراء التيار الوطني الحر ومعارضة غالبية القوى المسيحية التعيينات قبل انتخاب رئيس جديد للجمهورية.

أصابت التوقّعات وتعذّر انعقاد الجلسة التي قاطعها ما تبقّى من وزراء مسيحيين من خارج نادي المقاطعين، وكان أبرزهم ممثّل تيار المرده في الحكومة وزير الإعلام زياد مكاري. صار التعيين مستحيلاً، والتمديد لسلامة ثاني المستحيلات لاشتراطه موافقة مجلس الوزراء مجتمعاً وليس مجرّد تكليف من وزير المالية يوسف الخليل.

عند هذا الحدّ صار تسلّم نوّاب الحاكم المسؤولية مبرّراً، مثله تسلّم النائب الأول مهام حاكم مصرف لبنان بالإنابة، فشغّل بري وميقاتي وخلفهما حزب الله محركات نيل الموافقة السياسية من الكتل النيابية أو لنقل مظلّة الحماية السياسية. جال نوّاب الحاكم على رؤساء الكتل النيابية، وشملت زيارتهم رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل الذي وعدهم بالمشاركة في جلسات نيابية لتأمين التشريعات اللازمة مقابل إقرار الإصلاحات المالية اللازمة، ومن القوات وعداً بالتعاون لإتخاذ القرارات اللازمة لإحتواء الأزمة.

بتسلّم منصوري منصب الحاكم بالنيابة، تكون الشيعية السياسية هي الحاكم بأمرها في مفاصل الدولة المهمّة

وفي غضون ساعات انقلبت الأجواء المالية رأساً على عقب. استقالة نواب الحاكم التي كانت حتى الأمس القريب بحكم المؤكدة لم يأتوا على ذكرها في اجتماعاتهم المتكررة مع رئيس حكومة تصريف الأعمال، والتي انتهت إلى بيان صدر عن مكتب ميقاتي يقول بإسمه "أنّ المرحلة الراهنة تتطلّب تعاون الجميع للحفاظ على الاستقرار المالي والنقدي النّسبي وعدم تعريضه للاهتزاز، وأنّ هناك مسؤولية وطنية ملقاة على عاتقنا جميعًا، في حال لم يصر إلى تعيين حاكم جديد للمصرف المركزي". وهو ما فهم ضمناً على كونه حثّ ضمني لنوّاب الحاكم على تحمّل مسؤولياتهم ورفض مبدأ استقالتهم . مقابل "التعهد من الحكومة ومجلس النواب بالقيام بإصدار التشريعات اللازمة لدعم عملهم". متوافقا معهم على "المحاذير التي عبّر عنها نواب الحاكم في البيان الذي أصدروه قبل أيام مشروعة، وأنّ الخطّة الموضوعة من قبلهم تنسجم مع الخطّة الحكومية، والحكومة ستتعاون مع المجلس النيابي لإقرار التشريعات الضرورية لحسن سير عمل المؤسسات في المرحلة الدقيقة من تاريخ لبنان، وفق الاصول المنصوص عنها في قانون النقد والتسليف". لينتهي الأمر بتشديد نواب الحاكم على ان "البيان (الذي كان قد هدّد بالإستقالة) أصدروه لحضّ الجميع على تأمين المتطلبات القانونية والتنفيذية للحفاظ على الحدّ الأدنى من الاستقرار الذي لا يقتضي المسّ به اليوم"، مثمنّين "تجاوب القوى السياسية لتأمين المتطلّبات حكومياً ونيابياً وقانونياً".

وبذلك يكون قد تأمّن المخرج لإنزال نواب الحاكم عن شجرة التهديد المتواصل بالإستقالة، في وقت جاء من يلوّح لهم بأنّ خطوة كهذه ليست قانونية وأنّ قانون النقد والتسليف يفرض عليهم ولاسيما النائب الأول وسيم منصوري تسلّم مهامه.

لقد حقّق نواب الحاكم مبتغاهم بأن نالوا دعماً سياسياً لتوليهم المهام. حضر موفد عنهم إلى رئيس التيار يطلب دعماً سياسياً لا أن يُطلق النار عليهم كلما خطوا خطوة إلى الأمام، وتعهدوا بوقف التمويل الخطأ وتطبيق القانون مقابل إلتزام الحكومة ومجلس النواب بالخطوات اللازمة، وإقرار موازنة صحيحة وتطبيق الاصلاحات التي طلبها صندوق النقد، على أن يقدّم المصرف المركزي قرضاً للدولة يعاد تسديده بعد فترة زمنية لا تتجاوز ثلاثة أشهر لتكون قد حقّقت والمجلس الإصلاحات المطلوبة فتحصل على دعم صندوق النّقد وتستغني تدريجياً عن الإستعانة بتدخّل مصرف لبنان.

كلّ ذلك يبقى مجرّد وعود، بين طرفين ينتظر كلاهما الآخر لمحاسبته في ظلّ غياب عنصر الثقة بينهما وهو الأهمّ. وإذا كانت مضمونة تولّي النواب الثلاثة للحاكم مسؤولياتهم، فإنّ ما هو غير مضمون استمرار النائب الأول وسيم منصوري في مهامه والذي يبقى مرهون بقرار مرجعيته السياسية أي بري، الذي لا يزال متوجساً من أن ترمى كرة اللهب المالية في وجه الثنائي الشيعي. يعتقد بري أنّ هناك من يتربّص بالثنائي لدفعه نحو تحمل المسؤولية مجبراً وتحميله لاحقاً مسؤولية الأزمة. وهذا بالفعل ما عبّر عنه أحد النواب عقب اجتماع نواب الحاكم مع النواب في جلسة اللجان النيابية هو قال صراحة "ليتسلّم الشيعة مالية الدولة ويتحملوا المسؤولية".

بتسلّم منصوري منصب الحاكم بالنيابة، تكون الشيعية السياسية هي الحاكم بأمرها في مفاصل الدولة المهمّة من ديوان المحاسبة إلى النيابة العامة المالية إلى التوقيع الرابع في وزارة المال وصولاً إلى مصرف لبنان.

منذ أيام خرج من يدوّن على سبيل النكتة عبر تويتر عبارة مختصرة تقول "البلد بلا رئيس جمهورية، وبعد أسبوعين من دون حاكم وبعد شهرين من دون قائد جيش .. وعم نشتغل على البطرك". مجرّد نكتة تخلّف في الوجدان قلقاً. تعبّر خفية عن مخاوف المسيحيين وعن المأزق الذي وضعت الشيعية السياسية نفسها به. ولذا فإستمرار منصوري في مهامه غير مؤكّدة وقد لا تكون طويلة خاصّة في ظلّ عدم وجود علاقة طيبة بين التيار الوطني وبرّي.