إذا ما نظرنا إلى مؤشّر أسعار المواد الغذائية العالمي وأسعار النفط في السوق، نرى أنّ الإنخفاض في الأسعار كان 2% للمواد الغذائية، و10% لأسعار النفط وهو ما ينفي مقولة أنّ الإرتفاع في الأسعار المحلّية هو نتاج ارتفاع الدولار مُقابل الليرة اللبنانية في السوق الموازية والذي لامس الـ 140 ألف ليرة في حدود الـ 20 من آذار 2023


في شهر شباط من هذا العام، أعلن وزير الاقتصاد والتجارة أمين سلام عن "اعتماد التّسعير بالدّولار على أن تصدر وزارة الاقتصاد الآلية الجديدة المتّبعة"، مُضيفًا، "وبناءً عليها سنجبر محال السوبر ماركت أن تضع في كل يوم سعر الصّرف على بابها". في المُقابل أعلن رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية (في حديث صحافي) أنّ "لهذه الخطوة إيجابيات تفوق السلبيات، فتسعير السّلع الغذائية بالدولار هو لصالح المواطن. هذا الإجراء ينهي مقولة ارتفع سعر صرف الدولار فارتفعت الأسعار، بينما انخفض سعر الصرف من دون أن تنخفض الأسعار". وختم بالتّأكيد على أنّ "الأسعار ستنخفض في وقت لاحق، وقد انتقلنا إلى مرحلة تجريبية يجب أن تكون فيها ضوابط، وهي تجربة إيجابية وليست سلبية". كما أنّ بعض القيّمين على القطاع أشادوا بهذه الخطوة عبر زيادة المنافسة وسهولة الرقابة من قبل وزارة الاقتصاد والتجارة على الأسعار.



أسعار المواد الغذائية في السوبرماركات إرتفعت أكثر من 20% منذ بدء الدولرة

ارتفاع الأسعار

بغضّ النّظر عن قانونية هذه الخطوة، لم تلحظ الأسواق أيّ إنخفاض في الأسعار. لا بل على العكس، تُشير المُعطيات على الأرض أنّ أسعار المواد الغذائية في السوبرماركات إرتفعت (بالدولار) أكثر من 20% منذ بدء الدولرة. أكثر من ذلك، الإرتفاع في الأسعار كان يتمّ على مراحل حيث (مثلًا) تمّ رفع أسعار "أفخاذ الدجاج" أكثر من دولار على فترة عشرة أيام (الفواتير موجودة على مواقع التواصل الإجتماعي).

يُشير الموقع الإلكتروني لمنظمة الأغذية العالمية (FAO)، إلى أنّ مؤشر أسعار المواد الغذائية انخفض بنسبة 23% منذ شهر آذار 2022، وهذا الإنخفاض لم ينعكس في الأسواق اللبنانية. أكثر من ذلك، إنخفضت أسعار النفط منذ شهر نيسان 2022 وحتى شهر أيار الماضي بنسبة 41%، وهو ما يعني إنخفاض الكلفة من ناحية النّقل أيضاً، ولكن أيضًا من ناحية الطاقة التي يحتاجها تجار المواد الغذائية لإضاءة المحال وتبريد السّلع التي بحاجة للتبريد. وبالتالي كان من المفروض أن تنخفض الأسعار نتيجة إنخفاض أسعار المواد الغذائية ونتيجة إنخفاض أسعار النفط، إلّا أنّ العكس هو ما حصل على الأرض حيث إرتفعت الأسعار بشكل ملحوظ، ويكفي سؤال المواطن أو النظر إلى مواقع التواصل الاجتماعي للتأكّد من هذا الأمر!

وهنا يقول بعض القيّمين على القطاع أنّ السبب في هذا الإرتفاع هو التقلّبات التي طالت سعر صرف الدولار الأميركي مُقابل الليرة اللبنانية في السوق الموازية، خصوصًا في الفترة ما بين أول السنة و20 آذار من هذا العام. إلّا أنّه وبعد الإجراء الذي قام به مصرف لبنان، استقرّ سعر صرف الدولار الأميركي مُقابل الليرة اللبنانية في السوق الموازية ما بين 93 و94 ألف ليرة لبنانية. وإذا ما نظرنا منذ ذلك الوقت إلى مؤشّر أسعار المواد الغذائية العالمي وأسعار النفط في السوق، نرى أنّ الإنخفاض في الأسعار كان 2% للمواد الغذائية، و10% لأسعار النفط وهو ما ينفي مقولة أنّ الإرتفاع في الأسعار المحلّية هو نتاج ارتفاع الدولار مُقابل الليرة اللبنانية في السوق الموازية والذي لامس الـ 140 ألف ليرة في حدود الـ 20 من آذار 2023.



رسم 1: مؤشر أسعار الغذاء لمنظمة الفاو وأسعار الخام الأميركي (مصدر: FAO | Investing)


الرقابة على أسعار السّلع والبضائع شبه معدومة وتقتصر على مداهمات لجهاز أمن الدولة في النبطية والفرزل مع العلم أنّ أكثر من 80% من سكان لبنان يعيشون في المدن

رقابة شبه معدومة

من الواضح أنّ الرقابة على أسعار السّلع والبضائع وخصوصًا المواد الغذائية منها، شبه معدومة وتقتصر على مداهمات لجهاز أمن الدولة في النبطية والفرزل مع العلم أنّ أكثر من 80% من سكان لبنان يعيشون في المدن. وإذا كانت إمكانيات مديرية حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد والتجارة محدودة – إن من ناحية العديد أو من ناحية الموازنة – إلّا أنّ التركيز على كبار التجار كان ليُشكّل الفارق لو أنّ مديرية حماية المستهلك كانت تمتلك توجيهات واضحة من المسؤولين. وهو ما يدفعنا إلى الشكّ بوجود قرار سياسي يمنع الرقابة على كبار التجار.

الاقتصاد الحر والإحتكار

عندما وضع آدم سميث أسس الاقتصاد الحرّ، وضع شرطًا أساسيًا لنجاحه ألا وهو التنافسية. في لبنان لا يوجد تنافسية، ودور النقابات المهنية والتجمّعات هو لعب دور الـ Group purchasing organization للتجار الذين يُشكّلون التجمّع أو النقابة.

يُعرّف الإحتكار بقدرة لاعب إقتصادي (بائع) وهو ما يُعرف بالـ monopoly أو مجموعة لاعبين إقتصاديين أو ما يُعرف بالـ Oligopoly على التأثير على سعر السوق. وبالتالي يُمكن الإستنتاج من هذا التعريف أن السوق اللبناني هو سوق إحتكاري بإمتياز ولا يُمكن الادّعاء بأن الاقتصاد اللبناني هو إقتصاد حرّ حيث أن الشرط الأساسي الذي وضعه آدم سميث – أي التنافسية – غير موجود!

الإجراءات الحكومية

كسر الإحتكار يحصل من خلال قوانين يتمّ وضعها، على مثال ما يوجد في فرنسا حيث يُمنع على السوبرماركات مثلًا من التواجد في قلب الكثافة السكانية وذلك حفاظًا على صغار التجار، كما يُمنع على سوبرماركت أن تفتح فروعًا تُغطّي نسبة مُعنية أو أكثر من عدد سكان المنطقة المتواجدة فيها هذه الفروع، ناهيك عن التوافق غير المشروع (Illicit Agreement) الذي قد يتواجد بين التجار على الأسعار والذي عقوبته شديدة سواء كان في فرنسا أو الولايات المُتحدة الأميركية.

الفلتان الذي نعيشه في قطاع المواد الغذائية إن من ناحية الأسعار (كما أظهرناه في هذا المقال) أو من ناحية النوعية (سبق أن كُشف عن فضائح كثيرة في الآونة الأخيرة) لا يُمكن أن يستمرّ. وبالتالي يتوجّب على الحكومة أخذ إجراءات صارمة بحق المخالفين.

الإجراءات الحكومية الواجب إتخاذها على الفور تتضمّن:

أولًا – وضع قاعدة بيانات مُشتركة بين وزارة الاقتصاد والتجارة ووزارة المال والجمارك وذلك بهدف كشف التهرّب الضريبي والتهريب الجمركي والرقابة على الأسعار؛

ثانيًا – إلزام التجّار قبول الدفع بالبطاقات المصرفية والشيكات خصوصًا أن التعميم 165 أصبح يسمح بذلك؛

ثالثًا – الطلب من مصرف لبنان عدم فتح إعتمادات للتجار إذا لم يتم إظهار مستندات تُثبت أنهم دفعوا الرسوم الجمركية والضريبة على القيمة المضافة للصفقة السابقة؛

رابعًا – إعتماد الرقابة المُركّزة على كبار اللاعبين الإقتصادين بهدف إعطاء المثل للأخرين؛

خامسًا – نشر وزارة الاقتصاد والتجارة لتقارير عن الأسعار المصرّح بها على الجمارك والأسعار في نقاط البيع؛

سادسًا – تسهيل وتشجّيع دخول لاعبين خارجيين (شركات صينية أو فرنسية أو أميركية) إلى السوق اللبناني.

إنّ عدم القيام بهذه الخطوات سيؤدّي حكمًا إلى إستمرار ارتفاع أسعار السلع والبضائع وهو ما سيزيد من فقر الشعب اللبناني وتركيز الثروات لدى فئات مُعيّنة في المجتمع اللبناني.