ظلّت معرفة السواد الأعظم من اللبنانيين بالاقتصاد السياحي مقتصرة حتى الأمس القريب على العموميات. ونادراً ما كانت تفاصيل الحجوزات، وأعداد القادمين، ونسبة ملاءة الطائرات... تهمّ العامّة من خارج مجموعة أصحاب المصالح السياحية. الغالبية كانت تكتفي بالسؤال من باب العادة "كيف كان الموسم؟"، من دون أن تهتمّ فعليّاً بسماع الجواب الذي يؤكّد الازدهار المحقّق عاماً بعد آخر. وباستثناء بعض الصيفيات العجاف، استمرّ هذا الواقع لغاية العام 2011، حين بدأت الهشاشة تصيب مفاصل القطاع، لتشلّه من بعد اندلاع الأزمة في خريف العام 2019.

الاهتمام المتزايد بأعداد السيّاح وجنسياتهم ومدّة إقامتهم ونسبة إنفاقهم، نَبعت بشكل أساسي من الحاجة إلى النّقد الصعب، والتأمّل بأن ينعكس الموسم السياحي إيجاباً على سعر الصرف. فالقطاع السياحي لطالما شكّل إلى جانب الاستثمارات الخارجية المباشرة والتحويلات النقدية من المغتربين، الأقانيم الثلاثة التي قام عليها الاقتصاد اللبناني لعقود من الزمن. ومع فقدان الاستثمارات وتغيّر طبيعة التحويلات، رغم محافظتها على قيمتها، أصبحت العائدات السياحية الشغل الشاغل للبنانيين. وزاد التسويق الرسمي، المبالغ فيه أحياناً كثيرة، عن حجم السياحة وانعكاساتها الكبيرة على النهضة الاقتصادية، من مستوى التشويق والمتابعة من قبل مختلف شرائح المجتمع.

فأيّ صيف ينتظرنا هذا العام وكيف سينعكس على الوضع الاقتصادي بشكل عام وسعر الصرف بشكل خاص؟

1.5 مليون سائح



يفيد نقيب أصحاب مكاتب السفر والسياحة جان عبود في بيان، أنّ "التقديرات الأوّلية تؤكّد قدوم أكثر من مليون ونصف مليون سائح خلال الصيف إلى لبنان، بالمقارنة مع حوالي مليون و200 ألف سائح العام الماضي". وما يميّز موسم هذا العام برأي عبود هو "ارتفاع نسبة السياح من العرب والأوروبيين واللبنانيين القادمين من قارّات الاغتراب (مثل دول أميركا الجنوبية وأستراليا وكندا).  وقد بلغت نسبة الملاءة في شركات الطيران القادمة إلى لبنان ما بين 85 و90 بالمئة، ومن المنتظر أن تصل إلى 100 بالمئة خلال الفترة المقبلة. خصوصاً أنّ هناك حالياً زهاء 55 شركة طيران عاملة في مطار رفيق الحريري الدولي، وكثافة الحجوزات تؤشّر إلى إمكانية ارتفاع هذا العدد إلى 66 شركة طيران".

تأثير محدود على سعر الصرف

ممّا لا شكّ فيه أنّ قدوم الزوّار إلى لبنان يشكّل عنصر استقرار. وضخّ الدولار عبر الإنفاق بالداخل، يساعد على تحسين ميزان المدفوعات. إلّا أنّ "انعكاس النشاط السياحي على سعر الصرف يبقى محدوداً جداً"، برأي الخبير الاقتصادي ميشال قزح، للأسباب الثلاثة التالية:

- دولرة الاقتصاد الذي يخفّف الطلب على العملة الوطنية. بمعنى آخر لا يحتاج السيّاح إلى بيع الدولار وشراء الليرة من أجل تسديد فواتيرهم الاستهلاكية أو بدلات إقامتهم في الفنادق واستئجارهم للسيارات. فيبقى الطلب على الليرة منخفضاً. الأمر الذي يقلّل من قيمتها.

- تراجع نسبة السياح من مجموع القادمين. حيث يتوقع ألا يتجاوز عدد السياح الفعليين 200 ألف سائح، من أصل المليون ونصف المليون المنتظر قدومهم.

- اختلاف حجم وطريقة إنفاق المغتربين عن السياح. ففي حين تنزل الفئة الأخيرة في الفنادق وتستأجر السيارات وتزور المطاعم والمناطق السياحية، يقيم المغتربون في منازلهم، ويستعملون سياراتهم الخاصة وينفقون من حساباتهم بالليرة أو اللولار العالقة في المصارف.

وعليه من المتوقع ألّا يتجاوز الإنفاق العام لزوار لبنان هذا الصيف المليار ونصف المليار دولار، أو ما يعادل 1000 دولار لكل زائر، وهو رقم منطقي وقريب من الواقع. وذلك على عكس ما يُعطى من توقّعات وأرقام عن حجم إنفاق يتجاوز الخمسة مليارات دولار. وبحسب قزح فإنّ "العامل الأساسي لاستقرار الدولار يرتبط بما ينفقه مصرف لبنان من عملة صعبة، وتكاد تصبح نادرة، على منصّة صيرفة". وخطورة هذه السياسة لا تتعلّق بالغموض فحسب، إنّما بالإمكانية الكبيرة لاستخدام المركزي ما تبقّى من احتياطيات من دون أن يعلن عنها في ميزانياته نصف الشهرية التي يصدرها. "فمصرف لبنان خبّأ في ما مضى خسائره في الميزانية، ولا شيء يمنع من استمرار إنفاقه من الاحتياطي بسرّية من أجل شراء المزيد من الوقت"، من وجهة نظر قزح.

التاريخ خير دليل


تجربة العام 2022 أثبتت بما لا يقبل الشكّ أنّ كلّ الأحداث الإيجابية لا تنعكس تحسّناً اقتصادياً ما لم تترافق مع إصلاحات جوهرية.  فعلى الرّغم من قدوم 1.6 مليون سائح في صيف العام الماضي، بحسب تصريحات وزير السياحة وليد نصار، وإنفاقهم بحدود 6.6 مليار دولار، لم يتراجع سعر الصرف. بل العكس فقد ارتفع سعر صرف الدولار في ذروة أشهر السياحة الصيفية من حدود 27 ألف ليرة في منتصف تموز، إلى 32 ألف ليرة لغاية منتصف آب. واستمرّ سعر الصرف بالارتفاع بوتيرة مضطردة حتى وصل إلى حدود 44 ألف ليرة بين عيدي الميلاد ورأس السنة في نهاية العام 2022.

طالما الإصلاحات، ولاسيما في القطاع المصرفي، مغيّبة ستبقى الاستفادة من الأموال المتأتية من السياحة محدودة. فجزء غير قليل من المبالغ يحوّل إلى الخارج لشراء السلع والمعدات وأدوات الصيانة، وجزء آخر يحتفظ به في الخزنات ولا يدخل الدورة الاقتصادية، لا من باب الانفاق الاستثماري ولا من باب الإقراض. أمّا رواتب الموظّفين فما زال القسم الأكبر منها يُدفع بالليرة اللبنانية. وعلى هذا المنوال سيمرّ صيف 2023 كما مرّ قبله صيف 2022، فورة كلامية من دون نتائج.