تُجمع غالبية الأوساط السياسية على أنّ التحرّكات وردود الفعل التي سبقت القمّة العربية ولحقتها إلى الآن، حملت وتحمل دلالات على دنوّ موعد إنجاز الاستحقاق الرئاسي اللبناني، وإن كان البعض ما زال يعتقد أنّ في إمكانه أن يغيّر ما كُتِب داخلياً وعربياً ودولياً لأنّه لم يرضِ طموحه أو على الأقلّ لم يأتِ متلائماً مع أهدافه ومصالحه في ظلّ العهد الرئاسي المقبل.


يجزم بعض المعنيين بالاستحقاق الرئاسي الذين تتبعوا وقائع القمّة العربية وكواليسها أنّ لبنان الذي غاب عن كلمات رؤساء الوفود المشاركة (باستناء كلمة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي)، كان حاضراً بقوّة في الكواليس منذ أن بدأ صَوغ مشروع البيان الختامي للقمّة وقراراتها و"إعلان جدّة" عموماً، فكلّ كلمة وردت عن لبنان تم اختيارها بعناية بناءً على تنسيق وتشاور مسبق مع المسؤولين اللبنانيين، بما في ذلك الفقرة المتعلّقة بموضوع التمييز بين المقاومة والإرهاب، وحقّ لبنان في استرجاع ما تبقّى من أرضه محتلّاً، وبذلك جاء البيان الختامي للقمّة في شقّه اللبناني خالياً من أي تعابير يمكن أن تستفز هذا الفريق أو ذاك. وحاكت الواقع الداخلي اللبناني المحيط بالاستحقاق الرئاسي بمنطق إيجابي يشجّع على التفاهم على انتخاب رئيس جديد، ويصبّ في شكل أو آخر في مصلحة الخيار الرئاسي للثنائي الوطني وحلفائه.

كذلك دلّ هذا الأمر، معطوفاً على الاحتضان العربي لسوريا بإعادتها إلى الجامعة العربية، إلى أنّ صيغة الـ "سين – سين" السورية ـ السعودية عائدة إلى لبنان بمضمون وروحية جديدين، وهي تفرض حتماً أن ينتخب رئيس جمهورية غير معادٍ لدمشق، وتعكس أنّ هناك تسليماً عربياً، وسعودياً تحديداً، بحيوية انتخاب سليمان فرنجية الصديق للسعودية منذ أيام جدّه الرئيس الراحل سليمان فرنجية واللصيق جدّاً بالقيادة السورية، وبالتالي لا يمكن تفسير الإعلان السعودي قبيل القمة من أن لا "فيتو" لدى الرياض على أي مرشّح إلّا بأنّه يعني فرنجية دون سواه من المرشحين، وهو ما يتوقع أن تُظهره قريباً الاتصالات بين الرياض ودمشق ومن خلال حركة السفير السعودي وليد البخاري بعد عودته إلى بيروت.


وفي رأي المتابعين للحراك الداخلي والخارجي أنّ المعنيين بالاستحقاق الرئاسي ما زالوا يتركون لبعض القوى الداخلية حرّية الحراك والاعتراض إلى أن يفقدوا الأمل في تغيير مجرى الاستحقاق لمصلحتهم، قبل أن يحصل التدخّل الحاسم في اللحظة الحاسمة والتي بدأت تقترب لتظهير الصورة النهائية للمشهد الرئاسي، بل للسلطة اللبنانية الجديدة مع ما سيفرضه الأمر من ارضاءات وضمانات لهذا الطرف أو ذاك في أن تكون هذه السلطة متوازنة تتماشى والوضع السياسي الداخلي ومع الواقع الاقليمي والعربي الجديد الذي نشأ ويتوالى فصولاً في ضوء الاتفاق السعودي ـ الإيراني.

الإخراجات للمحرجين: إنزال بعض القوى التي صعدت إلى أعلى الشجرة


ويقول هؤلاء المتابعون أنّ نتائج القمّة وما كان سبقها من خطوات ليس إلّا محاولات لتأمين الإخراج اللازم لإنجاز الاستحقاق الرئاسي، عبر إنزال بعض القوى التي صعدت إلى أعلى الشجرة، وباتت أسيرة مواقفها وتحتاج إلى من يؤمّن لها المخرج الذي ينزلها إلى أرض الواقع.

ويوضح المعنيون بالاستحقاق الرئاسي أنّ المعارضة لو كانت قادرة على الاتفاق على مرشّح ينافس فرنجية لكانت ما تأخرت لحظة، إلّا أنّ انعدام الثقة في ما بين أطرافها وبينها وبين "التيار الوطني الحر" معطوفاً على حالة انتظار تعيشها، هو الذي يجعل من الحديث عن اتفاقها على مرشّح أشبه بـ"النسيج في الهواء" وهو التعبير الذي كان يستخدمه رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الرّاحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين في معرض تعليقه على ما كان يطرح في بعض المراحل من أفكار وحلول للأزمة اللبنانية.

المعارضون يتّهمون رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل بعدم الجدّية في التوصّل إلى اتفاق على مرشّح موحّد، كذلك يتّهمونه بأنّه يستغلّ التفاوض معهم بغية تعزيز أوراقه التفاوضية مع حزب الله لأنّه يستحيل أن يسير بمرشّح للمعارضة لا يلقى قبولاً لدى الحزب و"الثنائي" عموماً، كما أنّ جنبلاط يدرك هذا الأمر جدّياً، لذلك نأى بنفسه عن الترشيحات الجدّية متخذاً مقعد الانتظار وتحديداً انتظار كلمة السر الخارجية (السعودية تحديداً) والتي بدأ يتلمّس ضمناً أنّها ستنحو في اتجاه فرنجية دون سواه.

على أنّ مرجعاً معنياً بالاستحقاق الرئاسي يجد في الدعوة العربية والاجنبية للبنانيين إلى الاسراع في انتخاب رئيس جمهورية جديد بعيداً عن أي تدخّل خارجي، لن تلقى صدى لدى غالبية القوى المنخرطة في معركة الانتخابات الرئاسية، ما سيفرض في لحظة ما تدخلاً خارجياً، وعربياً على الأرجح، لإقناع المعنيين بإنجاز هذه العملية الدستورية قريباً، وهنا تتركّز الأنظار على الحراك السعودي تحديداً معطوفاً على الحراك الفرنسي، فالسعودي مغطّى عربياً خصوصاً في ضوء نتائج قمّة جدّة، والفرنسي مغطّى غربياً.


الاستحقاق الرئاسي دخل في مدار الانجاز وقد بدأ يتجاذبه الآن وحتى منتصف حزيران اتجاهان


ولذلك، فإنّ الاستحقاق الرئاسي دخل في مدار الانجاز وقد بدأ يتجاذبه الآن وحتى منتصف حزيران، الموعد الذي جعله رئيس مجلس النواب نبيه بري حداً أقصى لانتخاب رئيس جديد، اتجاهان:

ـ الأول: تسريع الخطى وتكثيف الاتصالات لتدوير الزوايا لتأمين انعقاد جلسة نيابية مكتملة النصاب القانوني بجولتيها الأولى والثانية بما يؤدّي إلى انتخاب رئيس يتم التوافق عليه أو نتيجة منافسة بين مرشحين أو أكثر، وهنا تبدو حظوظ فرنجية مرتفعة جداً.

ـ الثاني: سعي الفريق المعارض لوصول فرنجية في اتجاه تأمين انعقاد مؤتمر حوار لبناني ـ لبناني برعاية عربية ودولية، أو عربية تحديداً، وذلك اعتقاداً من هؤلاء أنّ هذا المؤتمر سيفضي إلى استبعاد انتخاب فرنجية ويؤدّي إلى اتفاق على انتخاب قائد الجيش العماد جوزف عون، وذلك تيمنّاً باتفاق الدوحة عام 2008 الذي جاء بقائد الجيش آنذاك العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية من دون إجراء التعديل الدستوري الذي يتيح انتخابه.

إلّا أنّ المؤشرات تدلّ إلى الآن أنّ الخارج العربي والغربي مدرك تماماً حقيقة استحالة الاتيان برئيس بمعزل عن إرادة الثنائي الشيعي وحلفائه المتمسّكين بدعم ترشيح فرنجية حتى النهاية، إلّا إذا هو قرّر الانسحاب من السباق من تلقاء نفسه وهذا أمر غير وارد لديه حتى اللحظة، وكذلك بمعزل عن الرضى السوري خصوصاً بعدما عاد العرب إلى سوريا أو عادت هي إليهم، إذ لا فارق بين العودتين.