تُسابِق زيادة الأصفار على فئات النقد اللبناني المتداولة، الارتفاع الهائل في نسب التضخّم. صفر بالزائد على ورقتي الخمسين والمئة ألف ليرة، لن يقدّم حلولاً بنيوية على مستوى الأزمة النقدية، لكنّه على الأكيد سيؤخّر الأمل بإمكانية التعافي القريبة. وسرعان ما ستلاقي ورقة المليون ليرة مصير شقيقتها الصغرى، وتتربّع على عرش أكبر ورقة نقدية لبنانية، تساوي أصغر فئة من العملة الأميركية.

تجتمع اللجان المشتركة اليوم تحت قبّة البرلمان، بدعوة من رئيس مجلس النواب نبيه بري لمناقشة ثلاث اقتراحات قوانين؛ واحد منها مقدّم من النائب زياد حواط، ويتعلق بتعديل أحكام المواد 3 و8 من قانون النّقد والتسليف. المادّتان المذكورتان تتصلان بشكل مباشر بفئات النّقد الممكن للمركزي إصدارها. والمطلوب بهذا الاقتراح تشريع طباعة ورقة المليون ليرة، من أجل تسهيل المعاملات التجارية والتخفيف من حمل رزم الأموال لشراء أبسط الحاجات.

السهولة في التعامل

شكلياً يعتبر التدبير أكثر من ضرورة. فهو يخفّف على المستهلكين مخاطر حمل ونقل كميات كبيرة من الأموال، ويقلّل تعرضهم للعملات المزوّرة. كما يخفّف من الناحية التقنية من المصاريف والأعباء اللوجستية لعدّ الأموال، نقلها وتخزينها. خصوصاً في المؤسسات التي تعتمد على البيع النقدي اليومي، كمحطّات المحروقات والمتاجر والسوبر ماركت.  إلّا أنّ هذه العملية في المضمون تمثّل "ثقباً أسوداً" "يبتلع" الأصفار مهما زادت. فبحسب السيناريو المتشائم لـ "معهد التمويل الدولي – مخاطر غرق التايتانيك"، قد يصل سعر صرف العملة الوطنية في العام 2026 إلى مليون و600 ألف ليرة. وإذا صح هذا السيناريو يصبح تصريف 100 دولار، يتطلب حمل 160 ورقة من فئة المليون ليرة. في حين أنّ تصريف المئة دولار راهناً يتطلب حمل 100 ورقة فقط من فئة المئة ألف ليرة. الأمر الذي يتطلّب مستقبلاً زيادة صفر آخر على ورقة المليون، ومن بعدها صفر جديد... نتيجة استمرار التضخّم بالارتفاع. وهكذا دواليك. ولنا في تجربة زيمبابوي خير مثال على ذلك. حيث وصل عدد الأصفار على العملة 14 صفراً، أو ما يعادل 100 ترليون دولار زيمبابوي، تساوي أقل من دولار أميركي واحد.

المبالغة بالتّشبيه بين لبنان وزيمبابوي، لا تعني بالضرورة أنّه من المحتّم على لبنان المرور بنفس التجربة

المبالغة بالتّشبيه بين لبنان وزيمبابوي، لا تعني بالضرورة أنّه من المحتّم على لبنان المرور بنفس التجربة. إلّا أنّ المقاربة تبقى مفيدة للدلالة على أنّ المشاكل الاقتصادية لا تحلّ بالإجراءات الشكلية الترقيعية، إنّما بالتوافق السياسي المدعوم بالإصلاح الاقتصادي. وقد كان "معهد التمويل الدولي"، واضحاً في تقريره الأخير حول لبنان أنّ "حلّ الازمة اللبنانية يتطلّب انتخاب رئيس للجمهورية والتوافق على حكومة فاعلة قادرة على اتخاذ القرارات، وتعيين حاكم جديد للمركزي، والدّخول بالإصلاحات بالتنسيق مع صندوق النقد الدولي". فكلّ ما يُعتمد اليوم من تدابير، على غرار التثبيت الاصطناعي لسعر الصرف والتسعير بالدولار للحدّ من ارتفاع الأسعار أثبت فشله. وقد بيّن التقرير الصادر يوم أمس عن إدارة الإحصاء المركزي في رئاسة مجلس الوزراء، ارتفاع مؤشّر أسعار الاستهلاك لشهر نيسان 2023، بنسبة 8,55 في المئة بالمقارنة مع شهر آذار 2023. في حين سجّل المؤشر على صعيد سنوي ارتفاعاً بسبة 268,78 في المئة. و"هذه هي النتيجة الطبيعية لدولرة الأسعار"، يقول المدير السابق لكلّية العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية د. بشارة حنّا.  و"أكرر التحذير من عدم وضع الفئات الكبيرة لليرة اللبنانية، لأنّ ذلك سوف يؤدي إلى ارتفاع إضافي للأسعار بالدولار". فبرأيه "تلعب الفئات الكبيرة في المراحل الأولى على إصدارها على العوامل النفسية والسوقية، وتحفّز المستهلكين على شراء كميات كبيرة من السلع والمنتجات. وبطبيعة الحال يؤدّي ارتفاع الطلب، إلى إحداث المزيد من الضغوط على الدولار. وبالتالي إلى ارتفاع سعر صرفه مقابل الليرة اللبنانية". والأجدى بحسب حنّا كان "العمل على تخفيض الأسعار، ليس من باب الإصلاحات النقدية فقط، إنما أيضاً من خلال تعزيز المراقبة والشفافية. حيث نشهد ارتفاعاً غير مبرّر في أسعار الكثير من السلع والأصناف التي تنتج محلياً، ومنها اللبنة البلدية. حيث يتراوح سعر مبيع 400 غرام بين 250 و300 ألف ليرة، في حين أنّ كلفة انتاج هذه الكمية لا تزيد عن 70 ألف ليرة".



التسليم للتضخم

تشكّل طباعة الفئات الكبيرة من العملة الوطنية تسليماً بالأمر الواقع الذي يفرضه التضخم. و"يصبح من الصعوبة بمكان العودة إلى أسعار الصرف القديمة"، يقول الرئيس التنفيذي لشركة «Advisory and Business Company»  علاء غانم. "لكن ليس من الضروري أن يؤدّي إصدار الفئات الكبيرة إلى زيادة معدلات التضخم، نتيجة زيادة حجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية. إذ عادة ما تترافق خطوة إصدار فئات كبيرة مع سحب نفس الكمية من العملات القديمة. كأن تسحب على سبيل المثال عشر أوراق من فئة المئة ألف ليرة، أو عشرين ورقة من فئة 50 ألف ليرة مقابل كل ورقة جديدة من فئة المليون ليرة. وبهذه الحالة يبقى حجم الكتلة النقدية مستقراً".  لكن هل ستلجأ الإدارة النقدية في ظل الحاجة المتزايدة لتمويل الدولة وليلرة الودائع إلى سحب الفئات القديمة؟ "هذا الأمر مشكوك فيه"، من وجهة نظر غانم، "إذ أنّ الإطار النظري شيء والتطبيق على أرض الواقع شيء مختلف كلياً".



بين زيادة الاصفار وشطبها

يحمل لجوء الدول إلى زيادة الاصفار على عملتها رمزية خاصة. وعادة ما يعتبر مؤشّراً على استمرار الأزمة النقدية. وذلك خلافاً لإجراء شطب الأصفار أو تغيير اسم العملة. وعلى الرغم من أنّ الإجراء الأخير لا يعتبر مؤشّراً قاطعاً على زوال المخاطر التضخّمية والأزماتً النقدية، وضمان عدم تكرارها، إلّا أنّه لا يتخذ في الغالب إلّا عند تحقّق الاستقرار النقدي المستدام. وهذا ما فعلته ألمانيا مع الفرنك عقب الحرب العالمية الأولى، ونجح. وهو أيضا ما لجأت إليه تركيا في العام 2002 عندما تم حذف ستة أصفار من عملتها، ونجحت لفترة طويلة من الزمن.

بشكل عام تبقى زيادة الاصفار وشطبها شكلية في حال لم تترافق مع إجراءات جدّية. وبحسب الإحصاءات التقديرية فإنّ 20 دولة تخلصت من الأصفار في عملتها لمرّة واحدة، فيما كررت 10 دول الخطوة بين مرتين وثلاثة. وبحسب جامعة "نورث كارولينا" الأميركية فإنّه، ومنذ عام 1960 تم إجراء 70 حالة حذف أصفار من العملات. وقد تصدّر ت فنزويلا المشهد العالمي حيث حذفت منذ العام 2008 أربعة عشر صفراً. وقد عادل البوليفار الجديد المطروح في العام 2021، 100 مليار بوليفار في عام 2007، ما يعكس التراجع المذهل للعملة الفنزويلية.