عندما أحالت الحكومة اللبنانية إلى مجلس النواب - بموجب المرسوم رقم 9506 تاريخ 12/12/2012 - مشروع قانون الصفقات العمومية، رأى مراقبون في ذلك خطوة متقدّمة لتوحيد المعايير المعتمدة في الشراء الحكومي. أكان في إدارات الدولة والمؤسسات العامة والبلديات واتّحادات البلديات الخاضعة لقانون المحاسبة العمومية، أو لناحية إخضاع عملية التلزيم التي تأخذ طابعاً لامركزياً لرقابة مركزية قوية. المشروع تضمّن آليات لإجراء الصفقات العمومية من شأنها تعزيز المنافسة وفتح المجال أمام استخدام التوريد في تحقيق أهداف تنموية، بيئية واجتماعية. كما أفسح في المجال أمام اعتماد التوريد الإلكتروني وهو إحدى أبرز الإجراءات الإصلاحية، بالإضافة إلى تطوير المهارات وبناء القدرات.

ولادة بعد مخاض

في العام 2013، أحيل إلى مجلس النواب بمرسوم مشروع قانون يتعلّق بتنظيم التفتيش المركزي، حيث كانت يومها إدارة المناقصات إحدى إداراته. وتكثّفت اجتماعات لجنة الإدارة والعدل، برئاسة النائب الراحل روبير غانم، حتى العام 2018 للوصول إلى صيغة نهائية لأحكام خاصة بإدارة المناقصات في التفتيش المركزي. إلى أن طلبت الحكومة بشكل مفاجئ، في آخر جلسة لها في العام 2018 قبيل الانتخابات النيابية، استرداد مشروع القانون المتعلّق بالصفقات العمومية. وقد سُحب هذا المشروع بالمرسوم رقم 3445 تاريخ 02/08/2018 لإعادة دراسته.

لكن، تحت ضغط المجتمع الدولي والمحلي، وبعد أن كثرت الشكوك حول صفقات الفيول وبواخر العرض الوحيد ومراكز المعاينة الميكانيكية وصفقات وزارة الاتصالات وغيرها، طلبت وزارة المالية في العام 2019 من معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي تقديم مقترح لمسودّة قانون للصفقات العمومية، أُطلق عليه اسم "اقتراح قانون الشراء العام". وقد تقدّم به النائبان ياسين جابر وميشال موسى إلى المجلس النيابي، ما لبث أن حُوّل إلى لجنة نيابية خاصة لدراسته.

الاقتراح المُترجَم من قانون الأونسيترال النموذجي للاشتراء العمومي (UNCITRAL) أثار ردود فعل عنيفة من جهات محلية متعدّدة. وكان أوّلها إدارة المناقصات التي سلّمت اللجنة النيابية الملاحظات بشأن الاقتراح، فيما استدعت الصياغة المقترحة أكثر من خمسين جلسة لإزالة بعض الشوائب التي كانت تعتري الاقتراح كي يتلاءم، بالحدّ المطلوب، مع واقع الإدارة اللبنانية. وهكذا أُقرّ قانون الشراء العام رقم 244/2021 في 2021/07/29 ليبدأ العمل به اعتباراً من 2022/07/29.


مراحل إقرار قانون الشراء العام


دائرة اتّسعت وصلاحيات تقلّصت

في مقارنة بين إدارة المناقصات وهيئة الشراء العام، يرى رئيس هيئة الشراء العام، الدكتور جان العلية أن الأولى أنشئت بموجب قانون تنظيم التفتيش المركزي وتحدّدت صلاحياتها والجهات الخاضعة لها بموجب أحكام المرسوم التنظيمي رقم 59/2866 المعروف بنظام المناقصات، وأصبحت بموجب أحكام القانون رقم 244 تاريخ 29/07/2021 النافذ اعتباراً من 29/07/2022 هيئة الشراء العام بصلاحيات تنظيمية رصدية إشرافية رقابية. أما الصلاحيات فباتت تشمل كل الجهات العمومية التي تموَّل صفقاتها من المال العام، ولكن من خلال التدقيق اللاحق لوثائق المناقصات بما فيها الإعلانات ودفاتر الشروط الخاصة، في حين كان القيام بتدقيق هذه المستندات مسبقاً عاملاً أساسياً ساهم في الحدّ من الهدر والفساد. في المقابل، كانت صلاحيات إدارة المناقصات المحدّدة بالمادة 17 من المرسوم التنظيمي 59/2866 أقوى وأعمق، وإن كانت تغطّي دائرة أقل اتّساعاً محصورة بالوزارات والإدارات العامة دون الأمنية والعسكرية منها.

ويضيف العلية: "لا تملك هيئة الشراء العام سلطة إعطاء الموافقات المسبقة بالأخص على العقود بالتراضي، كما لا تملك حق إلزام الوزارات التقيّد بملاحظاتها على دفاتر الشروط الخاصة ومشاريع الإعلانات ومشاريع العقود وملحقاتها. جلّ ما في الأمر أنها تراقب، ترصد، تضع التقارير وتبلّغ الجهات الرسمية والرقابية الإدارية والقضائية بتقاريرها. باختصار، هي تصدر توصيات غير ملزمة في موضوع الصفقات العمومية". 

وإذ يرى العلية أن الدور المناط بهيئة الشراء العام هو دور مهمّ جداً لكن غير كافٍ، يشير إلى أنه لا بدّ من وجود جهة معيّنة كما في كل دول العالم تلجأ الجهات الشارية إلى طلب موافقتها المسبقة قبل تطبيق الطرق غير التنافسية. كيف ذلك؟ "في كل مرّة تلجأ هذه الجهات المتعاقدة إلى اعتماد طريقة شراء غير المناقصة العمومية، وهو أمر غير مناط بهيئة الشراء العام ولا بأي جهة أخرى في لبنان، يعني فقدان حلقة رقابية مهمة من حلقات انتظام إجراءات الشراء العام وتحصينها في وجه احتمالات التلاعب والفساد"، كما يجيب.


جدول يظهر اختلاف صلاحيات هيئة الشراء العام مقارنة مع إدارة المناقصات في ما خص بعض المواضيع المهمة المختارة

الموضوع  

هيئة الشراء العام

إدارة المناقصات

إبداء الرأي

صلاحية عند الطلب

صلاحية عند الطلب

تدقيق دفاتر الشروط الخاصة

غير إلزامي للجهات الشارية قبل إطلاق المناقصة

إلزامي للجهات الشارية قبل إطلاق المناقصة

الإعلان عن المناقصة 

تتولى هيئة الشراء العام النشر ولا تملك حق تصحيح أو تعديل الإعلان عند الاقتضاء 

تضع الإعلان وتنشره 



وثيقة استراتيجيّة

أي عمل إصلاحي طويل المدى يتطلّب تدخّلات من جهات مختلفة ويحتاج إلى وثيقة استراتيجيّة متّفق عليها تُحدّد أولويات التدخّل وأهدافها ومسارها الزمني وحاجاتها التمويليّة، وتوضح المهام والأدوار وتداخلاتها. لذا صيغت هذه العناصر بوثيقة وُصفت بالـ"استراتيجيّة" تتضمن خطة عمل زمنيّة تُحدّد مؤشرات النجاح.

ويبيّن الرسم أدناه دور الجهات المختلفة، علماً أن هذه الاستراتيجيّة وُضعت بناء على نتائج المسح التقييمي – منهجية MAPS - ومتطلبات تنفيذ الخطوات الإصلاحية الواردة فيه.

بناء عليه، أصدر مجلس الوزراء قراره رقم 24 في 8 شباط 2022 وشكّل بموجبه لجنة وزارية تكون مهامها متابعة تنفيذ الاستراتيجيّة الوطنية لإصلاح الشراء العام وخطة العمل التنفيذية تمهيداً لإقرارها، كما تيسير تنفيذ الاستراتيجيّة ومتابعة وضع المراسيم والنماذج التطبيقية المتعلّقة بقانون الشراء العام. وقد تشكّلت اللجنة من سبعة وزراء هم وزير المالية (رئيساً)، والأعضاء: وزير الاقتصاد والتجارة، وزير الأشغال العامة والنقل، وزير الداخلية والبلديات، وزير الصناعة، وزير البيئة، ووزيرة الدولة لشؤون التنمية الإدارية. وبموجب القرار رقم 14 عينه، تولى معهد باسل فليحان أمانة سرّ اللجنة الوزارية. ومن أبرز توصيات اللجنة تلك المتعلّقة بالإسراع بإنشاء المنصّة الإلكترونية المركزية لدى هيئة الشراء العام لتأمين متطلبات النشر وجمع ومركزة المعلومات والبيانات كما نصّ القانون الجديد.

منصّة إلكترونية

نظّمت المادة 66 من قانون الشراء العام نظام المشتريات الإلكتروني، إذ نصّت على أن تنشأ لدى هيئة الشراء العام منصّة إلكترونية مخصّصة للشراء الإلكتروني عبر استخدام وسائل وتقنيات معلوماتية رقمية لتأمين حاجات الجهات الشارية من لوازم وأشغال وخدمات. والحال أن على المنصة أن تشتمل على آلية تسجيل إلكترونية تتيح للمورّدين والمقاولين والاستشاريين ومقدّمي الخدمات إمكانية التسجيل عبر الإنترنت للتأهل للمشاركة في الشراء العام الإلكتروني. كما وتُخصّص المنصة صفحات خاصة لتقديم العروض واستلامها إلكترونياً، وتعمل هذه الصفحات فقط من تاريخ إصدار المنافسة حتى وقت إغلاقها، بحيث يكون تاريخ ووقت إغلاق التلزيمات الإلكترونية هو نفس تاريخ ووقت إغلاق التلزيمات التقليدية. ويشمل نظام الشراء الإلكتروني الإعلان عن الشراء وتقديم العروض وفتحها والتعاقد إلكترونياً كما يحتوي على سوق افتراضية، ويُشكّل بوابة مُوحّدة للإعلانات التقليدية واستخدام الوثائق النموذجية. المنصّة – التي ستكون جاهزة قريباً - ستخفّف عن الهيئة كما عن الجهات الشارية. أما النماذج التي ستُنشر عليها فستكون بدورها جاهزة أيضاً. مع العلم أن معهد باسل فليحان أعدّ جزءاً منها وهي قيد الدرس والتبسيط من قِبَل هيئة الشراء العام تمهيداً لنشرها قريباً.

على أي حال، يشكّل قانون الشراء العام أحد أهم القوانين الإصلاحية التي التزم لبنان بالعمل عليها وأقرّها وفقاً للمعايير الدولية المعتمدة بهدف الحدّ من هدر المال العام، تشجيع القطاع الخاص على المشاركة، فتح باب تكافؤ الفرص وتعزيز الشفافية والنزاهة والمساءلة واستعادة ثقة المجتمع المحلي كما الدولي. بيد أن الإشكاليات والتحديات التي رافقت أولى مراحل تطبيقه – وأهمها القدرات التقنية والبشرية لدى الهيئة كما لدى الجهات الشارية - تطرح العديد من التساؤلات: ماذا عن الجهات التي ترفض الدخول في النظام وهل يكون خروجها من قانون الشراء العام هو الحلّ؟

علاقة هيئة الشراء العام بالجهات الرقابية الأخرى 


1/6 المرحلة التحضيرية