جاسم عجاقة

يستمرّ التردّي في الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية، حيث واصل دولار السوق الموازية إرتفاعه البارحة حتى وصل إلى مستوى تاريخي مع 107,000 ليرة لبنانية للدولار الواحد. هذا الإرتفاع واكبه ارتفاع كبير في أسعار السلع والبضائع إبتداءً من المحروقات حيث وصل سعر صفيحة البنزين 95 أوكتان إلى 1,925,000 ليرة لبنانية (مع العلم أن أسعار النفط العالمية هوت أكثر من 12 دولارًا للبرميل الواحد)، و​ربطة الخبز​ المتوسطة 825 غرامًا إلى 39000 ليرة لبنانية، وربطة الخبز الكبيرة 1033 غرامًا إلى 47000 ليرة لبنانية. وحتى سعر دولار منصّة صيرفة إرتفع البارحة ليبلغ 79,500 ليرة لبنانية للدولار الواحد لترتفع معه فواتير الخدمات العامة من كهرباء (صيرفة +20%) واتصالات (صيرفة)...

مما لا شكّ فيه إن ارتفاع سعر دولار السوق الموازية يعكس الجو السلبي العام في البلد، بدءًا من:

-الانسداد في الأفق السياسي والذي يعني أن لا إنتخاب رئيس جمهورية في الأمد القريب ولا حكومة أصيلة تستطيع أخذ الإجراءات اللازمة للجم التدهور؛

-عجز وزارة الاقتصاد والتجارة عن لجم ممارسات التجار المُخالفة للقوانين من رفع عشوائي للأسعار واحتكار للسلع والبضائع؛

-عجز السلطات الرقابية والأمنية عن وقف عمليات تهريب الدولارات إلى الخارج من باب تهريب السلع والبضائع إلى الدول المجاورة ومن باب إرسال الدولارات "الطازجة" عبر المصارف لتقبع في حسابات مصرفية خارجية؛

-إستمرار وجود تطبيقات تنطلق من خارج الحدود اللبنانية وتُعطي أسعار صرف العملة بمعايير غير شفافة. هذه الأسعار فرضت نفسها بحكم إعتماد التجار عليها حصريًا في كل تعاملاتهم حتى في تسعير السلع والبضائع التي تم شرائها على سعر دولار 1500 ليرة لبنانية؛

-إضراب المصارف المُستمرّ والذي يمنع المصرف المركزي من التدخل في السوق عبر ضخّ الدولارات؛

-ضعف قدرة التدخّل لدى مصرف لبنان والتي تُترجم بإرتفاع بسعر منصة صيرفة بشكلٍ شبه يومي؛

-الملاحقات القضائية بحق القطاع المصرفي والتي تُلقي بثقلها على الثقة بالليرة وبمصير الودائع.

إضافة إلى هذه العوامل، شكّل التسعير بالدولار ضربة كبيرة للثقة بالليرة اللبنانية (أنظر إلى مقالنا عن الدولرة)، وهو ما رفع نسبة الدولرة في الاقتصاد اللبناني إلى مستويات أصبحت خطيرة على الليرة اللبنانية. وإذا كانت العديد من الدول تسمح بدولرة جزئية لإقتصادها من خلال دولرة المدفوعات حيث يستخدم الدّولار بشكل أساسي كوسيلة للدفع، أو الدّولرة المالية حيث يُحوّل اللاعبون الإقتصاديون أصولهم إلى الدّولار الأميركي، إلا أن لبنان وبقرار من وزارة الاقتصاد والتجارة قام بدولرة حقيقية للأسعار المحلية، وهو ما يعني إنتقال لبنان إلى المستوى ما قبل الأخير من الدولرة الشاملة! الجدير ذكره أن المستوى الأخير من الدولرة ينصّ على تقييم الأجور بالدولار الأميركي وهو ما يعني توجيه الضربة الأخيرة لليرة اللبنانية.

تمّ تعليل قرار وزارة الاقتصاد والتجارة بالسماح للتجار بالتسعير بالدولار الأميركي، بأنه سيسمح بالسيطرة على الأسعار ويكون هناك مستوى من الشفافية أكبر. إلا أن الممارسات على الأرض تتعارض كلّيًا مع هذا الأمر. فأسعار السلع ترتفع بالدولار الأميركي وذلك بشكل شبه يومي، ويُمكن التأكد منذ ذلك من مواقع التواصل الاجتماعي التي تعجّ بالصور عن سلع تمّ رفع أسعارها بالدولار الأميركي بعد قرار وزارة الاقتصاد والتجارة. أضف إلى ذلك أن التجار يضعون سعر صرف دولار مقابل الليرة بما يؤمّن لهم هامش ربح مضمون، حيث وعلى إثر قرار الوزارة حيث كان سعر دولار السوق الموازية بحدود الثمانين ألف ليرة لبنانية، قامت إحدى السوبرماركات الكبيرة في بيروت بوضع سعر صرف 102 ألف ليرة لبنانية على مدخل السوبرماركت في تحدٍ واضح لوزارة الاقتصاد والتجارة التي – عن قصد أو غير قصد – إعترفت بشكل رسمي بشرعية دولار السوق الموازية.

الضربة الأخيرة المُتوقّعة لليرة اللبنانية هي من باب دولرة الأجور. فبدل أن تعمد الحكومة إلى تحسين القدرة الشرائية للمواطن من خلال ضبط لعبة السوق، ها هي تتجّه إلى عملية دولرة للأجور كما يُطالب به الإتحاد العمالي العام. بالطبع وبدون أدنى شكّ، الحفاظ على القدرة الشرائية للمواطن هو همّ أساسي للحكومات ويدخل في صلب عملها، إلا أن تحسين القدرة الشرائية من باب رفع الأجور بالليرة اللبنانية في فترة أزمة نقدية وتخلّف الدولة عن دفع دينها، هو كالطواحين في الهواء. كذلك الأمر بالنسبة لدولرة الأجور حيث أن الدولة لا تمتلك مداخيل بالدولار الأميركي ولا يُمكنها طبع الدولار!

التخلّي عن العملة الوطنية لصالح عملة أجنبية (دولرة، أورنة…) يجعل من الليرة فاقدة لثقة المواطنين والمُستثمرين وينتفي وجود العملة ومعها السياسة النقدية ومداخيل سك العملة (Seigniorage) والذي يُشكّل هامش مُهم في السياسات النقدية.

وما تجهله الحكومة اللبنانية أن الاستقرار الماكرو إقتصادي من خلال الدولرة لا يخفي حقيقة أن النظام المالي يُصبح أكثر عرضة لأزمات السيولة، إضافة إلى صعوبة (إذ لم نقل إستحالة) العودة إلى الوراء في حال تمّ تأمين إستقرار العملة الوطنية.

من هذا المُنطلق، ندعو الحكومة إلى العودة عن التسعير بالدولار الأميركي وفرض التعامل بالليرة اللبنانية في التعاملات الإقتصادية الداخلية على أن يكون التداول بالدولار مُتاحًا ضمن إطار التعاملات بين التجار والمصارف أو التجار والصرافين، وهو ما يتطلّب زيادة الرقابة على عمليات السوق. أيضًا ندعو الحكومة إلى الرقابة على أعمال التجار خصوصًا في ما يخص تهريب السلع والبضائع عبر الحدود، والتي تستهلك دولارات من السوق اللبناني وترفع الأسعار بشكل كبير، كذلك تهريب الدولارات عبر حجة الإستيراد والتي تقبع في حسابات مصرفية في الخارج. والأهم يبقى العمل على وقف التطبيقات التي لا تخرق السيادة الوطنية فقط، بل تعبث بحياة المواطنين بشكل مُريع.

بالطبع هذا الأمر لا يُمكن أن يحلّ الأزمة نظرًا إلى الحاجة إلى برنامج مع صندوق النقد الدولي، إلا أنه حكمًا يُخفف من وطأتها  على المواطن.