بينما غرقت مؤسسات الدولة في الفساد والعجز، برزت كهرباء زحلة قصةَ نجاحٍ استثنائية: كهرباء 24/24، إدارة محلية فعالة، ومحاسبة مالية شفافة. هذه التجربة تُظهر أن الاستقلالية الإدارية ليست انقساماً، بل إصلاح من الداخل، ودليل على إمكانية تطبيق اللامركزية. فالهدر الفني وغير الفني لا يتجاوز 5 إلى 7 %، وهو معدل يوازي المتوسط العالمي، في حين أن الهدر في مؤسسة الكهرباء الرسمية يتجاوز 50 في المئة، خصوصاً بعد رفع التعرفة إلى مستويات خيالية تجاوزت 27 سنتاً للكيلوواط عند احتساب الرسوم الثابتة والمقطوعة على العدادات.

وتُعدّ تعرفة كهرباء زحلة الأرخص في لبنان، إذ يدفع المشتركون فاتورة واحدة لا فاتورتين أو ثلاث. كما تلتزم الشركة بنظام (ISO) ومعايير الأداء والجودة (KPI) في توزيع الطاقة، وقد ركّبت حتى اليوم أكثر من عشرة آلاف عداد ذكي (Smart Meter)، وعدداً كبيراً من عدادات التبادل الطاقوي (Net Metering) تمهيداً لإطلاق نظام التبادل مع المشتركين الذين يعتمدون على الألواح الشمسية لإنتاج الكهرباء. وتعمل الشركة على تعزيز استخدام الطاقة المتجددة لتقليل استهلاك الوقود في معمل الإنتاج.

اللامركزية هي الأساس

هذه التجربة تُثبت أنّ اللامركزية ليست وصفة للتقسيم، بل وسيلة لرفع الكفاءة وتحقيق العدالة الإنمائية. واليوم، ومع تعيين الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء في أيلول 2025، وإقرار البرلمان قانون إنتاج الطاقة المتجددة الموزّعة رقم 318 في كانون الأول 2023، أصبح هذا النموذج قاب قوسين أو أدنى من التطبيق الواسع.

القانونان المذكوران يشكلان مدخلاً لفكفكة احتكار مؤسسة كهرباء لبنان الإنتاج والتوزيع، ويفتحان المجال أمام القطاع الخاص للدخول مناطقياً عبر مشاريع مستقلة أو بالشراكة مع القطاع العام، ما يعزز اللامركزية الإدارية في إنتاج الكهرباء ويمنح كهرباء زحلة بُعداً تنموياً ورائداً يمكن البناء عليه لتعميم التجربة في مناطق أخرى. فنموذج كهرباء زحلة قابلاً للتطبيق على ما سيُنشأ من تجارب مماثلة في المناطق الأخرى، مستفيداً من الإطار الجديد الذي أتاحه إنشاء الهيئة الناظمة وقانون الطاقة المتجددة

الاستعانة بتجربة "كهرباء زحلة" تشكّل نموذجاً تقنياً، لجهة خفض الخسائر على الشبكة، وتعزيز مراقبتها، و تحسين استقرار التغذية واستمراريتها من خلال التخفيف من تأثير أعطال مؤسسة كهرباء لبنان، و إتاحة فرص لتنويع مصادر الطاقة

وتُظهر هذه المنافع أهمية اللامركزية وأهمية المبادرة الخاصة، بدلاً من الاعتماد على نموذج مركزي يقوم على مرفق عام واحد فقط.

نموذج للإصلاح العملي بعيداً عن التنظير

لعل أهم ما في الأمر أن نجاح كهرباء زحلة هو نموذج قابل للتكرار، شرط توافر إرادة سياسية ومهنية قادرة على إدارة الشأن العام بكفاءة واستقلالية. فبعد توفير الغطاء القانوني لمشاركة القطاع الخاص في الإنتاج والتوزيع، لم يعد من عائق إلا وجود كوادر بشرية قادرة على فهم هذه التركيبة والاستفادة من التجارب.

وتبرهن هذه التجربة أن الإصلاح قابل للتحقق من داخل المنظومة نفسها متى توافرت الإرادة الفعلية لتحريك الأدوات القانونية القائمة. فالمشكلة لا تكمن في القوانين بحد ذاتها، بل في كيفية تفعيلها، إذ إن الإطار التشريعي الحالي قادر على دفع القطاع نحو التطور، شرط أن يُعمَل به بصورة جادة ومنتظمة.