التحقيق مع مسؤول لبناني رفيع توقيفه بتهمة الفساد، ظاهرةٌ لا تتكرر كثيراً في لبنان رغم احتلال هذا البلد الصغير المرتبة 154 من أصل 180 دولة على مؤشر مدركات الفساد (CPI) للعام 2024، وتسجيله علامة متدنية جداً بلغت 22 على 100 للعام نفسه، بحسب جمعية الشفافية الدولية. خلال سبعة أعوام من الانهيار الاقتصادي الناتج بالشق الأكبر منه عن الفساد المستشري في القطاع العام، لم يشهد لبنان إلا حالتي محاسبة جديتين بفارق زمني طويل نسبياً: الأولى، توقيف حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة في أيلول 2024، والثانية، توقيف وزير الاقتصاد السابق أمين سلام في 11 حزيران الحالي.

عناصر مشتركة كثيرة تجمع بين الشخصيتين. فعدا عن تشارك سلامة وسلام الأحرف الأربعة الأولى من العائلة، من حيث الشكل، فهما شخصيتان غير حزبيّتين، ولا يوجد وراءهما قاعدة جماهيرية أو شعبية؛ رغم أن أمين، من عائلة بيروتية عريقة لها وزنها الكبير في السياسة اللبنانية. أما في المضمون فإن المسّؤولان يتشاركان في قضايا فساد عديدة تتعلق باختلاس المال العام وهدره، واستعمال مناصبهما لمنافع شخصية، واستعمال التزوير والابتزاز. ويجمع بينهما أيضا مسرح عمليات مشترك يتعلق بقطاعي المصارف والتأمين المترابطين تاريخياً في لبنان. فدرجت المصارف الكبيرة أن تنشئ شركات تأمين خاصة بها.

توقيف أمين سلام

في الحادي عشر من الشهر الحالي أمر النائب العام التمييزي القاضي جمال الحجار بتوقيف وزير الاقتصاد السابق أمين سلام، بعد استجوابه في ملف التزوير وإبرام عقود مشبوهة والتصرف بأموال عامة خلافاً القانون. وقد أتى هذا التوقيف عقب إدعاء لجنة الاقتصاد والتجارة النيابية على سلام أمام النيابة العامة التمييزية والنيابة العامة المالية. فما هي أبرز الاتهامات الموجه لسلام:

التهمة الأبرز التي جرت وراءها الكثير من التهم، كانت شبهة ابتزاز شركة المشرق للتأمين في العام 2023 من قبل شقيق الوزير أمين سلام، والخبير في المحاسبة إيلي عبود (أصبح رئيس نقابة المحاسبين المجازين في لبنان في حزيران 2024) بتغطية من الوزير سلام نفسه. ففي تشرين الأول من العام 2023، حاول الثلاثي ابتزاز شركة المشرق للتأمين على خلفية تعثرها المالي، مشترطين دفع مبلغ مالي كبير لتنظيف سجلها في الوزارة الوصية، أو شطبها في حال عدم الاستجابة. فما كان من الشركة إلا أن تقدمت بإخبار أمام النيابة العامة المالية برئاسة القاضي علي إبراهيم.

وعلى خلفية هذه الحادثة اتُّهم كريم سلام، شقيق الوزير أمين سلام، بممارسته ابتزاز الشركة من خلال إجبارها على إجراء دراسات مالية عبر شركة يملكها مستشار الوزير، المدعو فادي تميم. والأخير يعمل لدى إيلي عبود، الذي أصبح فيما بعد نقيباً للمحاسبين. وقد طلب تميم، مبالغ مالية كبيرة وصلت إلى 300 ألف دولار. ونتيجة ذلك، حُكم على فادي تميم في العام الماضي بالسجن سنة كاملة، ودفع غرامة مالية بتهمة قبول رشوة في موضوع ابتزاز شركة المشرق، على خلفية قبضه مبلغ 100 ألف دولار، ومطالبته الشركة بـ 250 الفاً أخرى.

مخالفات كثيرة وهدر للمال العام

ابتزاز شركة المشرق للتأمين كان رأس جبل جليد مخالفات وزير الاقتصاد. فما خفي من مخالفات تحت تمتعهم بالحماية الوزارية كان أعظم، وأكثر كلفة على المال العام وخزينة الدولة وحقوق دافعي الضرائب من كل الشعب اللبناني. وقد بدأت المخالفات التي ارتكبها سلام، تتكشف تباعاً، ومنها ما هو غير معروف، مثل:

- استخدام صندوق "لجنة الرقابة على هيئات الضمان" لصالح نفقاته الشخصية، بما لا يقل عن 50 ألف دولار شهرياً دون أي مبرر قانوني.

- إبرام عقود مشبوهة، منها: صفقة تدريب لمدة أسبوعين بكلفة 640 ألف دولار مع شركة ماليزية.

- استئجار سيارة خاصة فخمة بتسعيرة موسمية تراوحت بين 1000 و3000 دولار شهرياً.

- تعيين مستشار قانوني بمبلغ سنوي يقدر بـ 100 ألف دولار.

- التعاقد مع شركة نقيب خبراء المحاسبة إيلي عبود للقيام بتدقيق في مطالبات مرفأ بيروت، بأتعاب بلغت قيمتها 420 ألف دولار. وقد أثار هذا التقرير الشبهات بعد انتشار معلومات عن عمليات ابتزاز حصلت لتعديل الارقام وتغيير الوقائع.

الادعاء على سلام بـ 14 جرماً مختلفاً

ملايين الدولارات، المجموعة من دافعي الضرائب المرهقين بانهيار سعر الصرف، وتدني قيمة الليرة، وتراجع المداخيل، أنفقها الوزير سلام خلال مدة ولايته على منافع شخصية لا تمت للخدمة العامة بأي صلة. وعليه قرر قاضي التحقيق الاول في بيروت بلال حلاوة استمرار توقيف الوزير سلام وجاهياً، بعد أن تم توقيفه الأسبوع الماضي بناء على إشارة مدعي عام التمييز جمال الحجار، بعد استجوابه في فرع المعلومات، واحالته إلى النيابة العامة المالية التي ادعت عليه بحوالي 14 جرماً مختلفاً.

قطاع التأمين مستقر

قطاع التأمين الذي كان مسرحا لمخالفات الوزير السابق وفريق عمله، لم يتأثر بما حصل بحسب مصادر معنية. لا بل العكس فان دولرة البوالص بشكل كامل، وارتفاع نسبة الرقابة على القطاع، والعمل على تحسينه بشكل حثيث، زادت من منسوب ثقة المتعاملين. وبشكل عام يمكن القول إن "وضع القطاع مستقراً". ولا يعكر صفو استقراره إلا الزيادات التي تلحق ببعض البوالص، ولاسيما منها الاستشفائية وعلى التأمين الإلزامي للمركبات الالية، الذي ارتفع أخيراً بحوالي 10 دولارات، من 35 دولاراً إلى 45 دولاراً. وبحسب المصادر فان "زيادة الفاتورة الاستشفائية أدت إلى ارتفاع تعرفة التأمين، وانعكس ذلك على المواطن بشكل مباشر". أما فيما خص التأمين الإلزامي على المركبات الألية فقد "أتى ضمن اتفاق بين الشركات، ناتج عن زيادة الفاتورة الاستشفائية من جهة، وفرض رسم بقيمة 200 ألف ليرة على كل عقد تأمين في الموازنة الجديدة من جهة ثانية". وتلفت المصادر إلى أن "هذه التسعيرة مؤقتة، لحين إقرار مرسوم تعيين المجلس الوطني للضمان، ورفعه إلى مجلس الوزراء إقراره، حيث ستدمج بوليصتي الإلزامي وضد الغير في بوليصة واحدة. وفي جميع الأحوال فإن تعرفة الإلزامي عادت إلى ما كانت عليه في العام 2019.

توقيف وزير الاقتصاد السابق أمين سلام ومن قبله رياض سلامة لا يعتبران مؤشراً إيجابياً في مكافحة الفساد فحسب، إنما يدلان على إمكانية إسقاط الحصانة وملاحقة المخالفات متى ما توفرت النية. لكن السؤالين الابرزين يبقيان: هل تنفرط "مسبحة الفساد" وتتم ملاحقة بقية المتورطين في الصفقات وسرقة المال العام على مدار السنوات الماضية ممن يملكون "الحصانة" الشعبية والطائفية بعدما "هرّت" حبة الوزير سلام؟ وهل تُستعاد الأموال التي تقدر بعشرات مليارات الدولارات، إن لم يكن مئات المليارات، وتوظف في خدمة الاقتصاد والإنسان؟.. لا جواب!