بالأمس، منذ ساعات الصباح الأولى، أطلق العدو الإسرائيلي حمم حقده مستهدفاً المناطق اللبنانية المختلفة من الجنوب إلى البقاع وصولاً إلى جبيل شمالاً. غارات استخدم فيها أكبر الصواريخ التي وصلته أخيراً من الولايات المتحدة الأميركية من ضمن شحنة الأسلحة التي كان معلّقاً تسليمها.
بالأمس، كان لبنان على موعد مع الضوء الأخضر الأميركي الذي تحدثت عنه وسائل الإعلام الإسرائيلية لشنّ أوسع عدوان على أراضيه من الجنوب إلى البقاع الغربي والأوسط والشمالي. عدوان حصد مواسم أعمار مختلفة. أكثر من 500 ضحية ومئات الجرحى، أغلبهم من الأطفال والنساء وكبار السن. المشهد ليس بجديد على العدو، فهو نفسه يمارس المجازر نفسها منذ قرابة السنة ضد غزة وأهلها. الاختلاف الوحيد هو الصلف الذي يتصرّف به والصمت العالمي المريب.
مئات الطائرات الحربية شنّت مئات الغارات على عشرات المدن والقرى اللبنانية مروراً بالضاحية الجنوبية لبيروت، في عملية أطلق عليها جيش العدو تسمية "سهام الشمال" في حرب كانت حرب الشمال والجنوب، أمّا اليوم فهي حرب التحرر بمواجهة الاستعباد. ما يحصل هو معركة الإنسانية بمواجهة التوحش الغربي. هذا الغرب الذي لم ير في كلّ ما حصل إلّا مناسبة لتأكيد وقوفه إلى جانب دولة الاحتلال في الدفاع عن نفسها.
وللمفارقة، فإنّ إسرائيل هي التي تفاخر بأنّها الأقوى في كلّ المواجهات التي تخوضها، ولكن الغرب يرى دوماً أنها هي التي تحتاج إلى مساعدته. وكلّما وجدها في مأزق سارع إلى دعوة خصومها إلى ضبط النفس، وتكتسب هذه الدعوة غالباً ما يشبه التهديد والوعيد.
وبحسب استمرار المقاومة في إطلاق الصواريخ إلى مدى أوسع مما كان عليه قبل "عدوان السهام"، من الواضح أنّ إسرائيل لم تحقّق أهدافها المعلنة، وأحدها القضاء على جانب كبير من القدرة الصاروخية للحزب. كما أخفق العدو في تحقيق أهدافه غير المعلنة، وأهمّها ضرب بيئة حزب الله ودفعها إلى الفكاك عنه بسبب الخوف على الحياة ومعاناة النزوح والتهجير والخسائر المادية. الغارات الإسرائيلية استهدفت الأخوين علي وجلال فارس برغم أنّ أكبرهما لم يبلغ عشر سنوات، قتلتهما مع أختيهما وسائر أفراد العائلة، وقبلهم قتلت الطفلة ياسمينا نصار بوجهها الأبيض الملائكي ونايا غازي الطفلة التي انتشرت صورتها ضاحكة وستبقى. إسرائيل وبخلاف المصطلح الذي يحلو للبعض استخدامه وهو "تحييد" لوصف قتلها للمدنيين، قتلت أكثر من 50 طفلاً خلال يوم واحد ولم يرف لها جفن ولا أصيبت إنسانية الغرب بصدمة.
وفيما كانت إسرائيل تمارس هوايتها المفضّلة في القتل العشوائي وسفك الدماء، راح الإعلام الغربي يعيد نشر الرواية الإسرائيلية للأحداث، ويسير في ركبه بعض الإعلام العربي، من موقع العداء للفكر المقاوم والمتبنّي للمقاربة الغربية للأحداث، والتي لا ترى في كلّ ما يجري سوى مصلحة الكيان الإسرائيلي. وهي تغطية إخبارية تجافي الموضوعية حتى أنها ليست محايدة. فأغلب ما يُنشر يتطابق مع منطق الاحتلال. ولم يبقَ الأمر موضع استغراب. فهذه الرواية بدأت منذ السابع من تشرين الأول من العام الماضي، ولا تزال. إعلام يروّج للقاتل ويتجاهل الضحية.
إسرائيل التي تحدثت علناً عن تغيير وجه المنطقة فلم يجرؤ أحد على مساءلتها، ولا حتى سؤالها.
على وقع التصعيد الإسرائيلي، كان الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان يجول على المسؤولين اللبنانيين. لودريان، التقى رئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي على أن يلتقي لاحقاً رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد وقيادات سياسية أخرى. بحسب بعض ما رشح عن لقاءات الرجل، فهو لم يحمل معه أيّ مبادرة جديدة. جلّ ما في الأمر دعوات إلى ضبط النفس والتهدئة في ما يشبه الأسطوانة المشروخة نفسها التي لا تحمل سوى التمنّي بأن نموت بصمت، فلا داعي لمقاومة القاتل. لا داعي لرفض المصير الذي اختاره لنا من أوجد الاحتلال في أرضنا، ومن رعاه ودعمه ووفّر له جميع الإمكانات ليكون الأقدر على اقتلاع أشجار الزيتون من الأرض وقتل زارعيها ومن يرويها ومن يستظل بفيئها.
جاءنا الغرب الذي لا يوفّر فرصة للقول إنّه يقف إلى جانب إسرائيل ليدعونا إلى التهدئة، أو بمعنى أصح، إلى الانصياع، في انتظار ما يُهيّأ لنا من مصير. أما إسرائيل التي تحدثت علناً عن تغيير وجه المنطقة فلم يجرؤ أحد على مساءلتها، ولا حتى سؤالها. هذا هو المجتمع الدولي الذي يطالبوننا بالركون إليه، وهو العاجز عن وقف سفك الدماء المتواصل في فلسطين المحتلة منذ عام تقريباً.
إسرائيل ترفض اعتبار ما تقوم به حرباً، وها هو المجتمع الدولي يتصرّف وفق مشيئة الاحتلال ورعاته. ويبقى لبنان برعاية السماء.