تتعدّد أسباب توقّف معامل انتاج الطاقة في لبنان، والنتيجة واحدة: التهديد بـ"انفصال الشبكة". والمصطلح الأخير هو تعبير تقني يحلو لمؤسسة كهرباء استعماله بدلاً من القول انقطاع عام وشامل للكهرباء، الذي من الظاهر أنّ لبنان سيكون على موعد معه في أيّ لحظة من هذا الأسبوع، وإلى أمدٍ طويل.

السبب هذه المرة لا يتعلّق بعدم القدرة على تأمين الفيول، ولا بالعجز عن تفريغه في المصبّات بسبب العواصف وارتفاع أمواج البحر، ولا تعطّل مجموعات أساسية في معامل الإنتاج، ولا عدم مطابقة المحروقات للمواصفات، أو مخالفة صفقة الاستيراد قانون الشراء العام... إنّما نتيجة "وجود حجز مالي (Financial Hold) على الشحنة من قبل المورِّد"، بحسب بيان مؤسسة الكهرباء "نتيجة الإشكالية المالية ما بين مصرف لبنان، الحكومة اللبنانية، والحكومة العراقية".

أساس المشكلة

لفهم هذا التعليل المستجدّ أو الجديد يتعيّن علينا العودة إلى أساسيات صفقة التبادل النفطي (swap) المبرمة بين لبنان والعراق على مستوى دولة في العام 2021. إذ تقضي الصفقة الممدّدة للسنة الثالثة على التوالي، والتي يفترض أن تنتهي في تشرين الأول 2024، بأن يزوّد العراق لبنان بالنفط الأسود الثقيل مقابل وضع مبالغ مادية بـ "اللولار" في حساب خاص بالعراق في مصرف لبنان، على أساس سعر منصّة صيرفة يستفيد منها العراق بشراء سلع وخدمات من لبنان.

أساس هذه الصفقة لم يكن تجارياً على الاطلاق، إنًما إنساني محض. وقد هدف إلى تجنيب لبنان العتمة الشاملة في خضم الانهيار، وعجز مؤسسة كهرباء لبنان عن شراء ولو نقطة فيول واحدة، على أساس التعرفة المدعومة القديمة، وانقطاع مادّة المازوت للمولّدات الخاصة وارتفاع ثمنه. وعلى الرّغم من رفع وزارة الطاقة التعرفة في نهاية العام 2022 بمئات الأضعاف في خطّة الطوارئ الطاقوية، وارتفاع مبيع الكيلوواط ساعة من متوسط 70 ليرة إلى ما بين 9000 و24 ألف ليرة، فإنّ الكهرباء استمرّت في الاعتماد على المساعدة العراقية كمصدر وحيد ومحدود للنفط. لا بل أكثر من ذلك اشترطت خطّة الطوارئ الطاقوية بشكل واضح وصريح "أن تسدد الدولة اللبنانية كلفة شراء النفط العراقي والمقدّرة قيمته بحوالى 460 مليون دولار أميركي"، تقول الخبيرة القانونية في شؤون الطاقة ​كريستينا أبي حيدر. وقد طلبت الخطة في البند الأول من مقام مجلس الوزراء ووزارة الطاقة والمياه بالتوازي مع إقرار التعرفة الجديدة لمبيع الكهرباء "تأمين مادتي الفيول أويل والغاز أويل بحسب الجدول المرفق بالخطّة لتشغيل معامل انتاج مؤسسة كهرباء لبنان لمدة 5 أو 6 أشهر. وذلك للتمكّن من زيادة ساعات التغذية بالتيار الكهربائي إلى حين البدء بجباية فواتير الكهرباء التي تصدر على أساس التعرفة الجديدة".

العراق ممتعض

مضى على وضع خطة الطوارئ الطاقوية (التعرفة الجديدة) موضع التنفيذ قرابة العام وثمانية أشهر، ولم يتغيّر شيء. لا ساعات التغذية زادت ولا قدرة "الكهرباء" على شراء حاجة معاملها من الفيول ارتفعت. وظلّ لبنان يعتمد على النفط العراقي من دون ضجّة، رغم الإبهام في الاتفاق، "إلى أن أعرب وزير الطاقة عن إمكانية البدء بشراء المزيد من الفيول بالدولار النقدي لرفع ساعات التغذية"، تقول أبي حيدر، عندئذ اعتبر العراق أنّه الأولى بتسديد ثمن الفيول الذي يرسله إلى لبنان. وإذا كان بإمكان لبنان دفع ثمن الفيول، فليدفع لنا متأخّرات ارتفعت من نصف مليار دولار بحسب الاتفاق الأساسي إلى نحو 1.7 مليار دولار. وأخذ القرار بوضع الحجز المالي على الشحنات. مع التذكير أنّه لم يتحدّد سعر الصّرف الذي ستوضع على أساسه مستحقات العراق في مصرف لبنان، ولا كيفية الاستفادة منها.

الخطورة، برأي أبي حيدر، لا تتعلّق بإمكانية الانقطاع الآني في الكهرباء، ريثما تحلّ المشكلة، إنّما بـ "إمكانية عودة الوضع الكهربائي في لبنان إلى ما كان عليه في العامين 2021 و2022، أي معدل تغذية لا يزيد على الساعتين في اليوم يتخلّله عتمة شاملة بين الحين والآخر". فإيرادات كهرباء لبنان من التعرفة الجديدة أعجز من أن تؤمن الكمّية نفسها التي كانت تستفيد منها من العراق والمقدرة بحوالى مليون طنّ سنوياً من النفط الأسود الثقيل. فالجباية من القطاع الخاص أفراداً ومؤسسات متأخّرة قرابة العام، ومستحقّات الإدارات العامة ستتجاوز 400 مليون دولار مع نهاية العام 2024. ذلك أنّ خطة الطوارئ تقدّر قيمتها السنوية بـ 200 مليون دولار. هذا عدا التكاليف التي تتحمّلها المؤسسة بالدولار النقدي من أجل التسديد إلى مقدّمي الخدمات ومشغّلي المعامل وبدل قطع غيار وصيانة"، بحسب أبي حيدر. وعليه، فإنّ اعتماد الكهرباء على مواردها الذاتية لشراء الفيول مقتصر عن تأمين الكمية المطلوبة للعودة إلى ما كان عليه الوضع في زمن المساعدة العراقية.

الواقع المر ّ

إزاء هذا الواقع، أعلنت مؤسسة كهرباء لبنان في لبنان عن "خروج معمل دير عمار عن الخدمة، قسرياً، منذ ليل السبت السادس من تموز 2024، وتوقيف مجموعة إنتاجية في معمل الزهراني، قسرياً، بعد ذروة ليل يوم الأحد السابع من تموز 2024، وذلك لإطالة فترة عمل المجموعة الأخرى والأخيرة في معمل الزهراني لحوالى أربعة أيام إضافية". وذلك رغم "أنّ شحنة مادة الغاز أويل المورّدة لمصلحة مؤسسة كهرباء لبنان بواسطة وزارة الطاقة والمياه- المديرية العامة للنفط، والمخصّصة لشهر حزيران 2024، قد وصل القسم الأول منها إلى المياه الإقليمية اللبنانية في السابع والعشرين من حزيران 2024، وهي ترسو حالياً قبالة مصب معمل دير عمار، وإنّ جميع الإجراءات الإدارية والجمركية المتعلقة بها قد أنجزت كلها، وهذا ما يسمح بتفريغ الحمولة في خزانات مصبّي المعملين المعنيين. ومن جهة أخرى، إنّ القسم الثاني من الشحنة عينها قد وصل في الرابع من تموز الجاري، وهي ترسو حالياً قبالة مصبّ معمل الزهراني، ولا تزال في انتظار ورود نتائج الفحوص المخبرية من مختبرات شركة Bureau Veritas في دبي- الإمارات العربية المتحدة، والتأكّد منها من قبل شركة المراقبة التي كلْفتها وزارة الطاقة والمياه- المديرية العامة للنفط". وتنتظر البواخر فكّ الحجز المالي للتمكّن من تفريغ الحمولة.

الخطأ بنيوي وليس ظرفياً

المشكلات المحاسبية والمالية في صفقات شراء الفيول تقابلها أخطاء بنيوية بقيام وزارة الطاقة بتأمين الفيول لمؤسسة كهرباء لبنان بواسطة المديرية العامة للنفط. و"هذه العملية يشوبها منذ سنوات طويلة غياب التخطيط وانعدام الحوكمة في العمل الإداري"، بحسب مصدر متابع. "ولم يُنظّم، مرة، جدول الاستيراد قبل فترة تجنّباً للوقوع في المحظور. ذلك مع العلم أنّه يفترض بوزارة الطاقة والمياه عملًا بأحكام المادة 11 من قانون الشراء العام وقبلها عملاً بأحكام نظام المناقصات، كجهة شارية وضع الخطط السنوية مسبقًا وإرسالها إلى هيئة الشراء العام، على أن تشمل الخطة تحديد تواريخ تقريبيّة لمواعيد إجراء الصفقات، وهذه المواعيد يجب أن تراعي وجود مخزون أمان من الفيول والغاز أويل يسمح بإطلاق المناقصات ويأخذ في الاعتبار الفترة الزمنية التي تستغرقها إجراءات المناقصات. وهذا لم يحصل.

مرة جديدة، يتأرجح لبنان في مهبّ خيارين أحلاهما مرّ، إمّا العتمة الشاملة وإمّا تأمين الدولارات لشراء الفيول من السلفات. وسواء جرت قوننة السلفة من البرلمان أم أعطيت "حبياً" من مجلس الوزراء، فإنّ النتيجة ستبقى واحدة، كهرباء بالقطّارة وبكلفة باهظة على المواطنين والاقتصاد.