غالباً ما ينجرف الرأي العام نحو ما يدغدغ وجدانه أو وجعه أو أحلامه من دون أن يتحقّق من صوابية ما يُطرح عليه، ومدى قابليته للتنفيذ على أرض الواقع، أو يدقّق في خلفيات حامل هذا الطرح وأهدافه. خير توصيف لذلك ما جاء على لسان الأديب سعيد تقي الدين الذي قال يوماً: "الرأي العام بغل كبير. يصعب عليك جرّ هذا البغل الكبير إلى حظيرة الصواب، وهذا كان صعباً على الأنبياء حتى. وإلّا فما أغرق الله الأرض لنوح، ولا خسف بقرى لوط الأرض. لهذا شيء عادي أن لا تستطيع جرّ هذا البغل الكبير حيث الصواب، ولكن إياك أن يجرك بغلٌ فقط لأنه كبير".

كما أنّ ثمة ساسة يحترفون محاكاة غرائز الرأي العام، فيحرجون ساسة آخرين ويدفعونهم إلى مجاراتهم أو يبتزّونهم أمام الجماهير. وقائع عدة تثبت ذلك في تاريخنا اللبناني المعاصر، منها إعلان العماد ميشال عون - يوم كان رئيس حكومة انتقالية - "حرب التحرير" في 14 آذار 1989 محاكياً غضب المسيحيين عموماً من الوجود السوري وممارساته، وكذلك غضب شرائح من المسلمين كانت هي أيضاً تعاني الأمرّين من ذلك الوجود. لذا نجح في كسب تأييد شرائح من اللبنانيين خارج ما كان يعرف بالمنطقة المحرّرة (المنطقة الشرقية) حيث شهدت بقية المناطق تحرّكات داعمة لمعركة "التحرير"، كما انضمّ شباب سُنّة، خصوصاً من الشمال، إلى "أنصار الجيش" وقاتلوا إلى جانب عون.

يومذاك، لم يكن هناك مقوّمات جدّية لفتح حرب كهذه، ليس على الصعيديْن العسكري واللوجستي فحسب، بل أيضاً على الصعيديْن الاقتصادي والاجتماعي، حيث لا ملاجئ معدّة ولا مؤن غذائية وموادّ نفطية مخزّنة ولا جهوزية طبّية. الأهمّ أنّ كلّ حرب عسكرية يجب أن تواكبها حملات سياسية وديبلوماسية، وأن يؤخذ توقيتها في الاعتبار المشهديةَ السياسية، إلّا أنّ كل هذه العوامل لم تكن متوفّرة.

من هذا المنطلق، يصلح تسمية "حرب التحرير" بـ "الحرب الإعتباطية"، وإن شنّها عون عن سابق تصوّر شخصي لا عسكري أو سياسي، في إطار الرسائل التي كان يوجّهها إلى اللاعبين خلال خوضه معركة وصوله الى بعبدا رئيساً للجمهورية أصيلاً عوضاً عن رئيس حكومة انتقالية. حتّى عسكره آنذاك فوجئ بفتح الحرب على دمشق فيما كان يستعد لفتحها على "القوات اللبنانية". هذا ما أكّده العميد شامل روكز الذي قال لـ"نداء الوطن" في 6/1/2024: "في 14 آذار، انطلقت حرب التحرير. وهنا، كي أكون أميناً لما حصل، كان مقرراً أن ننزل إلى مراكز القوات في المجلس الحربي وضبيه والسيطرة عليها، لكن تحوّلت المعركة في آخر لحظة ودخلنا في سنة كارثية".

عون الذي رفع شعارات كـ "بدّي كسّر راس حافظ الاسد" و"بدي هزّ المسمار" وهدّد بقصف الشام، راح يُحرج "القوات اللبنانية" عبر المزايدة عليها في قضيتها الأساسية، وهي التي ترفع شعار "إعرف عدوك السوري عدوك" ويبتّزها، فإمّا تدعمه أو يصوّرها كاذبة أمام الجمهور في مسألة مواجهة الوجود السوري، لا بل متواطئة معه. فوجد سمير جعجع نفسه مرغماً على دعم عون في حرب يدرك نتائجها سلفاً كي لا يصطدم معه من جهة، وكي لا يظهر أنه ضد مواجهة السوري من جهة أخرى. فكل حجج جعجع ومعطياته العسكرية والسياسية "لا تعلو فوق صوت المدفع" وخطاب الجنرال المثير للجماهير.

مغامرة "الحزب" كمغامرة عون من حيث أنّ المقوّمات الاجتماعية والاقتصادية والطبّية غير متوفّرة لشنّ حرب

كما أنّ عون تفرّد عام 1989 بقرار شن "حرب التحرير" ولم يتشاور مع "القوات اللبنانية" اللاعب الأساسي الآخر في ما كان يعرف بالمنطقة الشرقية، ثمّ أجبرها على دعمه في مغامرته هرباً من التخوين والاصطدام، ها هو "حزب الله" يتفرّد في 8/10/2023 بقرار فتح جبهة الجنوب مع إسرائيل من دون تشاور مع شركائه في الوطن ومستغفلاً الدولة اللبنانية القائمة بالحدّ الأدنى هذه المرة بعكس مرحلة الحرب.

مغامرة "الحزب" كمغامرة عون من حيث أنّ المقوّمات الاجتماعية والاقتصادية والطبّية غير متوفّرة لشنّ حرب، خصوصاً أنّ لبنان يرزح تحت الانهيار. عدا أن لا التفاف داخلياً حول "الحزب" في خياره ولا حدّ أدنى من التوازن في ميزان القوى العسكرية. ففيما "نسور" العدو الإسرائيلي تستبيح سماء لبنان رصداً وقصفاً واغتيالاً، تجتاح جماهير الممانعة نشوة النصر جراء "هدهد" "حزب الله" الذي قد يكون إنجازاً بالنسبة إلى قدرات "الحزب"، لكنه تفصيل صغير مقارنة بقدرات إسرائيل. فإن كان "الحزب" يربك إسرائيل جنوباً فهي "تفلج" لبنان ابتداء من البلدات الحدودية التي حوّلتها حزاماً من الدمار وأرضاً محروقة وصولاً الى عمق عمقه الهرمل.

يكرّر "الحزب" نهج الإحراج والابتزاز لاعباً على وتر "القضية الفلسطينية" والعداء التاريخي لإسرائيل لدى شرائح لبنانية عدّة لا تؤيّده في فتح الجبهة، وبشعار "وحدة الساحات" ولا في إقحام لبنان بالحرب، لكنّها لا يمكن إلّا أن تدعم أيّ قتال ضد إسرائيل. يحاول وضع اللبنانيين أمام خيارين لا ثالث لهم. إمّا هم مع "حزب الله" في معركته ضد إسرائيل أو هم عملاء صهاينة.

إلّا أن تخوين "الحزب" والضغط بغية دفع اللبنانيين إلى الالتفاف خلفه متى شنّت إسرائيل حرباً شاملة تحت شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المدفع"، لا يبدو أنّه سيجدي نفعاً هذه المرة. فقوى لبنانية عدة تضع الخضوع لابتزاز "حزب الله" في مصاف خطر العدوان الإسرائيلي. لذا من يدري، فقد يطالبون بإعلان لبنان دولة عاجزة وقاصرة ومارقة وفاشلة، دولة واقعة بين عدو خارجي ومغامر داخلي، ويتسلّحون بالقرارات الدولية كالـ1559 وإخوتها. فهل يتدخّل المجتمع الدولي عندئذ أم يبقى مكتوفاً كما في غزة؟