أظهرت الوقائع عبر التاريخ أنّ حجم أيّ حدث وخطورته وأبعاده، على أهمّيتها، ليست بالضرورة عوامل ملزمة لتصنيفه حدثاً مفصلياً في مسار البشرية بقدر ارتباط ذلك بتزامنه مع عوامل التوقيت والزمان والمكان والمناخات المتوازية. فلطالما تفوّقت الأسباب غير المباشرة على الأسباب المباشرة ورجّحت كفّة هذا التصنيف.

على سبيل المثال عالمياً، ليس اغتيال ولي عهد النمسا فرانز فرديناند مع زوجته من قبل طالب صربي في 28/6/1914 أثناء زيارتهما لسراييفو، بسبب كافٍ لإشعال حرب عالمية سقط ضحيتها أكثر من 21 مليوناً بين عسكري ومدني، بل هو السبب المباشر المترافق مع أسباب غير مباشرة مرتبطة بمناخ دولي محتقن وصراعات من البلقان والسلطنة العثمانية الى أوروبا وارتفاع حدّة النزعة القومية فيها من جهة، ومطامع دولها العابرة للحدود، خصوصاً إفريقياً، من جهة أخرى. هذا عدا التنافس التجاري والاقتصادي والصناعي والسباق إلى التسلّح. أمّا محلّياً، فخير مثالٍ "بوسطة عين الرمانة" في 13/4/1975 التي شكّلت السبب المباشر لإشعال حرب الـ 16 عاماً في لبنان. غير أنّها لم تكن سبباً يتيماً أو فريداً من نوعه إذ سبقها "بواسط اقتتال" بأشكال عدة.

بعد مرور قرابة 50 يوماً على خطف المسؤول القوّاتي باسكال سليمان وقتله، يبدو أنّ تاريخ 7/4/2024 سيكون مفصلياً في مقاربة اللبنانيين لملفّ الوجود السوري غير الشرعي، إذ إنّ هذه الحادثة شكّلت عملياً منعطفاً على أرض الواقع لكيفية التعاطي مع هذا الملف، وسبباً مباشراً لبدء ورشة جدّية، فضلاً عن أسباب عدة غير مباشرة، لا تقتصر على جرائم شبيهة مرتكبوها سوريون، بل تشمل التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والديمغرافية العابرة للطوائف والمناطق والشرائح الاجتماعية.

بيّنت هذه الأيام صحّة قول سمير جعجع "ما رح تقطع" - الذي هو أبعد من فعل القتل بذاته كما حاول بعض السطحيين أو سيّئي النية الترويج - وهو يعني أنّه لا يمكن الاستمرار، بعد حادثة الخطف والقتل، في حال من الفوضى في ما يتعلّق بالوجود السوري والتفلّت التام من تطبيق القوانين. الموقف المتقدّم لـ"القوات اللبنانية" المترافق مع "نقمة" شعبية وطنية وقلق مشترك بين اللبنانيين - ليس على غدهم فحسب بل كذلك على حاضرهم - دفع إلى تسريع وتيرة التعاطي مع هذه القضية من قبل الأطراف كافة، وحتّى من قبل السلطات الرسمية.

تراجع الـUNHCR أتى لأنّ الدولة اللبنانية قرّرت ولو لِمرّة واحدة، أن تثق بأّنها دولة، وأنّها صاحبة الصلاحية في القرارات السيادية 

الجميع يعلم أن لا حلّ سحرياً وفورياً لملفّ الوجود السوري غير الشرعي في ظلّ غياب دولة فعلية في لبنان، إذ إنّ أيّ إجراء سيكون أشبه بجمع الماء بسلّة مثقوبة ما لم تضبط الحدود السائبة. هذه المسألة أشبه بالمسّ بـ"التوتّر العالي" في نظر "حزب الله"، وهو مستعدّ لارتكاب "7 أيار" جديد لمنع ضبطها. فهي رئته العسكرية والأمنية والاقتصادية ورئة حليفه الرئيس السوري بشار الأسد المالية والاقتصادية حالياً، وربما الأمنية والعسكرية والسياسية غداً، لرفع العقوبات عن نظامه وإطاحة مفاعيل قانون قيصر، لاشتراط إعادة إعمار سوريا ولتعزيز وضع الأسد شخصياً في الحكم.

برغم ذلك، ثمة خطوات بدأت تؤخذ قد تسهم بشكل كبير في:

* الحدّ من تدفّق السوريين.

* عودة قسم منهم إلى سوريا.

* ضبط جودهم وتنظيمه في لبنان.

* الحدّ من التداعيات السلبية لهذا الوجود.

* ردع عنجهية المنظمات الأممية ذات الصلة بالتعاطي مع لبنان وفوقيّتها ووقف عرقلتها قراراته السيادية.

في هذا الإطار، يمكن إدراج أكثر من خطوة في الأيام الـ50 الماضية:

* إعلان المفوضية السامية لشؤون اللاجئين UNHCR في 20/5/2024 عن سحب كتاب "التأنيب" الذي وجّهته إلى وزير الداخلية والبلديات بسام المولوي في 17/5/2024، والذي تنتقد فيه، بوقاحة، تطبيق البلديات للقوانين اللبنانية والتعاميم الصادرة عن المولوي و"تتمنّى بكلّ احترام" على الأخير وقف عمليات إخلاء السوريين غير الشرعيين. "تمنيات" أعادتنا بالذاكرة إلى حقبة "تمنّيات" النظام الأمني اللبناني – السوري بإلغاء مقابلة تلفزيونية من هنا وتجمّع من هناك. هذا التراجع أتى لأنّ الدولة اللبنانية قرّرت، ولو لمرّة واحدة، أن تثق بأنّها دولة، وأنّها صاحبة الصلاحية في القرارات السيادية، فكان استدعاء وزير الخارجية عبدالله بو حبيب ممثّل مكتب المفوضية في بيروت إيفو فرايسين.

* الحملة الأمنيّة التي تنفّذها القوى الأمنية منذ أسبوع بناء على توجيهات وزير الداخلية لمكافحة المخالفات بالسيارات والدرّاجات النارية بعدما أصبحنا نعيش في ظلّ قيادة "داعشية" على الطرق. إنّها حملة غير موجّهة ضدّ السوريين حصراً، بل تشمل اللبنانيين وجميع المقيمين في لبنان المخالفين للقوانين. أمّا الهدف منها فليس تطبيق قانون السير والحدّ من الفاتورة الدموية للحوادث المرورية فحسب، بل أيضاً مكافحة الظواهر الإجرامية كالسلب والسرقة والاعتداءات. نجح المولوي في تخطّي "اللعب بالشارع" – كقطع الطرق والتعرّض لمركز فصيلة المريجة على سبيل المثال - والحملات التحريضية التي شنّت ضدّه على خلفية تطبيق القانون ولم يتوقّف عند اتهامه بالإقدام على هذه الخطوة بهدف "الدخول في نادي رؤساء الحكومات" أو اعتبار الخطة تتسبب في"البطش بالناس" وفي "قطع شريان حياة الفقراء".

* حملة المديرية العامة للأمن العام على المؤسسات والشركات والمحال التي يستثمرها ويديرها سوريون بشكل مخالف للقانون، بالإضافة إلى التشدّد في مسألة الإقامات وتطبيق قانون العمل.

* الإجراءات التي تتّخذها البلديات في حقّ السوريين غير الشرعيين في نطاقها بدعم من المحافظين وبمؤازرة القوى الأمنية وعملاً بالتعاميم الصادرة عن وزير الداخلية وبالقانون اللبناني الساري المفعول. هذه الحالة تكبر ككرة الثلج، وهي قادرة عملياً على الدفع بقسم كبير من السوريين غير الشرعيين إلى العودة إلى بلادهم متى رفضت أيّ بلدية استقبال من رحّلتهم البلديات الأخرى، إذ لا يمكن أن يعيش مئات آلاف السوريين "طفّار" خارجين عن القانون.

عام 2019، مع تولي "القوات اللبنانية" حقيبة العمل بشخص الوزير كميل أبو سليمان، عمد الأخير إلى وضع خطّة لتنظيم العمالة في لبنان، وإلى تطبيق "قانون العمل" وإقفال المؤسسات غير الشرعية وتسطير محاضر في حق المخالفين وسوادهم الأعظم من السوريين. تواصل أبو سليمان مع وزارات عدّة في طليعتها "الاقتصاد" و"السياحة" كي تتشارك في تطبيق خطط شبيهة بالتوازي، فلم يلقَ تجاوباً. لا، بل تعرّض للضغوط من معظم الطبقة السياسية، وفي مقدّمها رئيسا الحكومة يومذاك سعد الحريري ومجلس النواب نبيه بري للتوقّف عن تطبيق القانون وتنفيذ الخطة. كما أنّ الأجهزة الأمنية حينذاك لم تتمتّع بالاندفاعة القائمة حالياً، ولم تتجاوب جدّياً مع جهوده.

اليوم، أن نأتي متأخّرين خير من ألّا نأتي. لكن، لا يتوّهم أحد أنّ هذه الإجراءات وحدها بإمكانها حلّ مشكلة الوجود السوري غير الشرعي، لكنّها قد تكون في الوقت الضائع "بدلاً عن ضائع" - ولو نسبياً – عن عدم ضبط الحدود السائبة عبر تجفيف مغريات تدفق السوريين غير الشرعيين إلى لبنان.