كلّ المؤشّرات تدلّ إلى أنّ الاستحقاق الرئاسي اللبناني وُضع في هذه المرحلة في صدارة الأولويّات المحلّية والإقليمية والدولية بدليل التقاطع الذي حصل بين قمّة البحرين العربية واجتماع سفراء المجموعة الخماسية العربية الدولية على وجوب إنجاز هذا الاستحقاق قريباً، لكنّ المواقف شيء والواقع شيء آخر، إذ على الرّغم من التفاؤل المشاع فإنّ العقبات والمعوّقات ما تزال كبيرة وتحول دون تحقيق هذه الخطوة الدستورية التي تشكّل المعبر الإلزامي إلى أيّ حلّ للأزمة اللبنانية.

تسود في الأوساط السياسية اللبنانية والإقليمية والدولية توقّعات كثيرة حول الشأن اللبناني، المتفائل منها يتحدّث عن انتخاب رئيس في مهلة أقصاها بين أواخر أيار الجاري ونهاية حزيران المقبل، فيما المتشائم منها يتحدّث عن انتظار إلى ما بعد 5 تشرين الثاني موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية.

ولقد تكوّن داخلياً في الآونة الاخيرة اقتناع بأن لا رئيس سينتخب إلّا بعد أن توقف الحرب في غزّة وتالياً في جنوب لبنان، حسبما يؤكد ذلك قطبٌ سياسي معني مباشرة بهذا الاستحقاق، مضيفاً أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ‏سيواصل حربه على غزّة لأنّه على الرّغم من إدراكه أنّ جيشه قد تعب، يريد أن يصل إلى مرحلة يشعر فيها أنّه حقّق نصراً ما. ولكن لفت في هذا السياق نتيجة استطلاع رأي أجرته القناة 12 الإسرائيلية حيث أظهرت أنّ "مصلحة إسرائيل" لدى نتنياهو نالت 30 في المئة بينما نالت الاعتبارات الشخصية والسياسية الداخلية 61 في المئة.

ويقول القطب السياسي نفسه في هذا الإطار إنّ الحرب على جبهة لبنان الجنوبية مستمرة ما لم توقف إسرائيل حربها على قطاع غزّة، وإنّ حزب الله أبلغ إلى الأميركيين بطريقة غير مباشرة وإلى الفرنسيين مباشرة أن لا وقف لإطلاق النار في الجنوب ما لم يتوقّف إطلاق النار في غزّة. علماً أنّه شاع قبل أيّام أنّ "الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين أبلغ إلى الوفد النيابي الذي زار واشنطن وضم النائب فؤاد مخزومي ونواباً من المعارضة "أنّ "الديل" بين لبنان وإسرائيل ليس بعيداً من أن يصبح جاهزاً". لكنّه ناقض نفسه بقوله في المقابل "إنّ إسرائيل لا يناسبها تطبيق القرار 1701 لأنّ مصلحتها العسكرية والأمنية أن تبقى تحلّق فوق لبنان".

وإذ يستبعد القطب السياسي توسعة إسرائيل دائرة الحرب في اتجاه لبنان، يؤكّد أنّ كل المعلومات والمعطيات تشير إلى أنّ حركة "حماس" قادرة على الاستمرار في القتال فترة طويلة وفق النمط الذي تعتمده حالياً في مواجهة الجيش الإسرائيلي، علماً أنّ نتنياهو الذي يراهن على أن يأتي عامل إطالة الحرب لمصلحته قد يكتشف أنّ هذا الرهان سيكون مخطئاً سواء فاز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية أو فاز منافسه جو بايدن.

لا رئيس سينتخب إلّا بعد أن توقف الحرب في غزّة وتالياً في جنوب لبنان.

أطراف تتدلع على حلفائها

وعلى المستوى الحراك الداخلي في شأن الاستحقاق الرئاسي، فقد تأكّد لحزب الله وحلفائه حتّى الآن أنّ رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل لن يغيّر موقفه ويؤيد انتخاب رئيس تيار المردة سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية ‏في الوقت الذي تتخذ "القوات اللبنانية" الموقف نفسه حتّى الآن، من دون أن تقفل الأبواب أمام احتمالات التفاهم على رئيس.

وفيما يؤكّد القطب السياسي المعني بالاستحقاق الرئاسي تمسّك "الثنائي الشيعى" وحلفائه بدعم ترشيح فرنجية، يشير في الوقت نفسه إلى أنّ الإدارة الأميركية لا تمانع في انتخابه، وفي الوقت نفسه لا تجاري نظراءها في المجموعة الخماسية ولا سيما منهم السعوديين رأيهم في انتخاب رئيس من خارج كلّ المنظومة السياسية الموالي منها والمعارض، أي غير منتم إلى أيّ فريق سياسي، ‏ولكن هذا الطرح يصطدم بمعارضة "الثنائي الشيعي" وحلفائه الذين يؤكدون أنّ البلاد لا يمكن أن تدار برئيس لا طعم له ولا لون ولا رائحة، خصوصاً بعد كلّ ما جرى ويجري في الجنوب وغزّة والمنطقة. ولذلك لا يزال هناك متسع من الوقت لتحقيق اتفاق على انتخاب رئيس الجمهورية، وهذا ما يدفع بعض القوى الداخلية إلى "التدلُّع" على حلفائها في الداخل والخارج لنيل أثمان مواقف مطلوبة منها، وها هي تلعب في مرحلة الوقت الضائع التي لم تنته بعد قبل أن تحين ساعة الحقيقة ويذهب الجميع إلى انتخاب الرئيس الذي يجب أن يكون مناسباً للبنان والمرحلة. فبعض أطراف المعارضة "تتدلّع" على حلفائها متماهية معهم في الخيار الرئاسي الذي يريدون، فيما يتدلّع "التيار الوطني الحر" على حلفائه ممعناً في معارضة مرشحهم فرنجية، لكن المهم أن لا يطول دلع هذا ودلع ذاك ليأتي في النهاية لمصلحة لبنان وليس على حسابه.

حراك خماسي

وفي خطوة يتوقع أن تلي اجتماع عوكر الخماسي الأخير سيتحرك سفراء الخماسية فرادى أو ثنائياً، في اتصالات أو لقاءات لإتاحة فرصة جديدة للفرقاء السياسيين للتوافق على آلية "الحوار" أو "التشاور" تمهيداً لانتخاب رئيس، ولذلك سيكون لهم جميعاً أو لبعضهم لقاء قريب مع رئيس مجلس النواب نبيه بري. علماً أنّه وخلافاً لقرءات البعض المخطئة لمضمون بيانهم، فإنّهم لم يلزموا الفرقاء المعنيين بمهلة انتخاب الرئيس أقصاها نهاية أيار الجاري. بل إنّهم قالوا إنّ "الكتل السياسية اللبنانية الكبرى" التي جالوا عليها "متّفقة على الحاجة الملحّة إلى انتخاب رئيس للجمهورية، وهي مستعدة للمشاركة في جهد متصل لتحقيق هذه النتيجة، وبعضها مستعد لإنجاز ذلك نهاية شهر أيار 2024 ". ولم يتحدّث السفراء عن "حوار" وإنما عن "مشاورات محدودة النطاق والمدة بين الكتل السياسية وضرورية لإنهاء الجمود السياسي الحالي. وهذه المشاورات يجب أن تهدف فقط إلى تحديد مرشّح متفق عليه على نطاق واسع، أو قائمة قصيرة من المرشحين للرئاسة، وفور اختتامها يذهب النواب إلى جلسة انتخابية مفتوحة في البرلمان مع جولات متعدّدة حتّى انتخاب رئيس جديد". واعتبروا "أنّ انتخاب رئيس لهو ضروري أيضاً لضمان وجود لبنان بفعالية في موقعه على طاولة المناقشات الإقليمية، وكذلك لإبرام اتفاق ديبلوماسي مستقبلي بشأن حدود لبنان الجنوبية".

... وتسريب خماسي

ولكنّ "مصادر الخماسية" سرّبت عبر بعض وسائل الإعلام في اليوم التالي لاجتماعها في مقر السفارة الأميركية ما يشبه "التهويل" على الفرقاء السياسيين جاء فيه: "الحرب في لبنان بدأت ولا نستبعد إمكانية لقاء الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان بمسؤولين إيرانيين". واعتبرت أنّ "مهلة آخر أيار قد لا تؤدي إلى انتخاب رئيس، وعلى اللبنانيين الاختيار بين الجلوس إلى طاولة المفاوضات أم لا لأنّه بعد حزيران ستكون الدول قد انهمكت بملفاتها".

وجاء هذا التسريب مشفوعا، بموقف للسفير المصري علاء موسى، شدّد فيه على "أهمّية الإطار الزمني"، وقال: "إنّ العمل تحت ضغط الوقت سيسهّل الانتخاب، ونحن نصدّق التزام الكتل الإسراع في الانتخاب وبعضها حدّد مهلة نهاية أيار". وأضاف: "لا نستسيغ منطق العقوبات بل التحفيزات، وإنّ مواصفات الرئيس حدّدتها الكتل، أي رئيس يوحّد اللبنانيين مع بعدٍ عربي ورؤية اقتصادية وقادر على التعامل مع التحديات ولاسيما منها وضع الجنوب".

… وعين التينة ترد

وفي الموازاة، سرّبت مصادر عين التينة رداً على كلام السفراء في بيانهم عن "جلسة انتخابية مفتوحة في البرلمان مع جولات متعدّدة حتى انتخاب رئيس جديد". فقالت إنّ "الرئيس بري سيدعو إلى جلسات بدورات متتالية وليس إلى جلسة واحدة بدورات متتالية".

وفي الوقت الذي لم تتمكن الخماسية في اجتماع عوكر من معالجة النقطتين العالقتين في ما يتعلق بطاولة الحوار أو التشاور التي ستسبق انتخاب الرئيس لجهة تحديد من سيدعو إلى هذه الطاولة ومن سيترأسها ويديرها في ظلّ رفض المعارضة أن يكون رئيس مجلس النواب نبيه بري الداعي إليها هو الذي يترأسها ويديرها، حصل تسريب مجهول المصدر مفاده أنّ "أحد الاقتراحات التي ستطرحها كتلة الاعتدال الوطني على القوى المختلفة أن تكون هي الجهة الداعية إلى طاولة التشاور على أن يجري البحث عن صيغة توافقية لرئاستها". وقد لفت في هذا المجال قول السفراء في بيانهم إنّهم انطلاقاً من "جهودهم الصادقة والمحايدة لمساعدة لبنان على الخروج من أزماته الحالية على استعداد لأن يشهدوا وييسروا المشاورات السياسية المقترحة بالتزامن مع الجهود والمبادرات اللبنانية المستمرّة من قبل جميع الأطراف وأصحاب المصلحة اللبنانيين، بما في ذلك كتلة الاعتدال الوطني".