تقاطعت المعطيات لدى مسؤول لبناني كبير مع معلومات رشحت من اجتماع ديبلوماسي دوريّ في واشنطن على التأكيد أنّ انتخاب رئيس جمورية جديد سيتمّ قريباً، وفي مهلة أقصاها مطلع الصيف قبل أن تنهمك الإدارة الأميركية كلّياً بانتخاباتها الرئاسية المقرّرة في 8 تشرين الثاني المقبل، وما يعزّز دقّة هذه المعلومات أنّها بُنيت على اقتناع عربي دولي بأنّ حلّ الأزمة اللبنانية بشقوقها السياسية والإصلاحية الإدارية والاقتصادية والمالية، وكذلك تنفيذ القرار الدولي 1701 وإنهاء الحرب الدائرة في الجنوب، تستلزم وجود رئيس جمهورية على رأس سلطة تنفيذية جديدة مكتملة المواصفات الدستورية، لكي تضطلع بتنفيذ هذا الحلّ الشامل الذي يدور الحديث عنه منذ زيارتي الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين الأخيرتين لبيروت، وهو الذي يستعدّ حالياً لزيارة ثالثة متوقّعة في أيّ وقت.

ثلاثة ملفّات كبرى أعيد فتحها بقوّة في هذه المرحلة يتوزّع الاهتمام بها بين بيروت وواشنطن وباريس والرياض وعواصم عربية وإقليمية ودولية، وهي الاستحقاق الرئاسي اللبناني وتنفيذ القرار الدولي 1701 والنزوح السوري، وهذا ما يدلّ إلى أنّ هذه الملفّات وُضعت كلّها، أو بعضها على الأقلّ، على سكّة الحسم، مع اقتراب دخول إدارة الرئيس جو بايدن في "كوما" الانتخابات الرئاسية ابتداء من آب المقبل.

الاستحقاق الرئاسي اللبناني وتنفيذ القرار الدولي 1701 والنزوح السوري

فكلّ الاتصالات والمحادثات الجارية محلّياً ومع الخارج تزاوج بين هذه الملفات الثلاثة، بما يوحي أنّه لا يمكن معالجة أيّ منها بمعزل عن الآخر، حتّى أنّ ملف غزة بات كأنّه من ضمنها، وأنّ معالجته هو الآخر من شأنها أن تساعد على معالجة الملفات اللبنانية، وأنّ حصول أيّ اتفاق على وقف لإطلاق النار أو تسوية للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة من شأنه أن ينعكس حتماً وقفاً للنار على جبهة لبنان الجنوبية، حيث يخوض حزب الله حرباً وقائية ودفاعية من جهة، وإسنادية لفصائل المقاومة الفلسطينية في غزّة من جهة ثانية. وذلك بغية منع إسرائيل أولاً من الاستفراد بقطاع غزة وتدميره كلّياً، بشراً وحجراً للانتقال لاحقاً إلى شنّ حرب مماثلة على لبنان بغية القضاء على حزب الله، العنصر الثاني الذي ترى فيه إسرائيل ما يهدّد أمنها ووجودها بعد حركة "حماس" وأخواتها من فصائل المقاومة الفلسطينية سواء في غزة أو في الضفة الغربية أو في أيّ مكان.

اجتماع ديبلوماسي

وفي المدة الأخيرة، انعقد في واشنطن الاجتماع الدوري للسفراء الأميركيين حول العالم، والذي تُقوّم خلاله عادة الأوضاع العالمية التي هي محور اهتماماتهم. وفي المعلومات التي رشحت من هذا الاجتماع، أنّه لدى البحث في الشقّ المتعلّق بلبنان في ضوء الحرب الدائرة على حدوده الجنوبية وفي قطاع غزة، بلور السفراء توصيةـ قرار بأنّ المدخل إلى حلّ أزمة لبنان السياسية، وإنهاء الحرب على حدوده الجنوبية عبر تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1701، تبدأ بانتخاب رئيس للبلاد أولاً بحيث يتولّى على رأس سلطة جديدة تنفيذ هذا الحل بشقّيه الداخلي والجنوبي، خصوصاً أنّ حلّاً من هذا النوع لا يمكن تنفيذه في ظلّ عدم وجود سلطة تنفيذية مكتملة المواصفات الدستورية. وهنا اتجهت أنظار السفراء واهتماماتهم إلى المهمّة التي يضطلع بها الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين الآتي إلى لبنان في أيّ وقت، بعدما زار تل أبيب قبل أيام من جولة وزير الخارجية الأميركية انتوني بلينكن الأخيرة على المنطقة.

ماكرون لميقاتي: الرئيس قريباً

في سياق متّصل، تفيد مصادر تسنّى لها الاطلاع على ما دار في اجتماعات الأليزيه الفرنسية ـ اللبنانية الأخيرة، أنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أكّد خلالها لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي أنّ لديه معطيات تشير إلى أنّ انتخاب رئيس لبناني جديد بات قريباً، وذلك في معرض البحث في الأزمة اللبنانية بشقوقها المتعدّدة، ولا سيّما منها الاستحقاق الرئاسي وتنفيذ القرار الدولي 1701 والورقة الفرنسية المطروحة في شأنه وملف النازحين السوريين، وما ينطوي عليه من مخاطر تتهدّد لبنان. وفي هذا الإطار أسمع ماكرون قائد الجيش العماد جوزف عون بعض العبارات التي تنوّه بمزاياه وتؤكّد تعويل فرنسا على دوره في قيادة المؤسسة العسكرية اللبنانية وعلى المستوى الوطني، الآن، وفي المستقبل. وعند البحث في دعم الجيش اللبناني والدور المطلوب منه في نطاق تطبيق القرار الدولي، أكد عون للرئيس الفرنسي أنّ الجيش يحتاج إلى 900 مليون دولار حتى يتمكّن من تطويع خمسة إلى ستة آلاف جندي لنشرهم في منطقة جنوب الليطاني، إلى جانب أربعة آلاف جندي منتشرين منذ صدور القرار الدولي عام 2006 هناك، فأبدى ماكرون تفهّماً لهذا المطلب واعداً بعقد مؤتمر دولي للمانحين بغية تأمين هذا المبلغ وما أمكن من مبالغ إضافية لدعم المؤسسة العسكرية اللبنانية.

ويقول أحد المطّلعين على أجواء الاتصالات الجارية إنّ الولايات المتحدة الأميركية توحي، في بعض مواقفها وتصرفاتها خلال الاجتماعات المتعلقة بلبنان داخل المجموعة الخماسية وخارجها، أنّها تؤيد انتخاب قائد الجيش رئيساً الجمهورية، لكنّها في الوقت نفسه تدرك أنّ رغبتها هذه غير قابلة للتحقّق لأنّها تصطدم بعقبات كثيرة، لعلّ أبرزها تمسك "الثنائي الشيعي" وحلفائه الشديد بدعم ترشيح رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية الذي كان، ولا يزال، متقدّماً في ترشيحه على سواه. وفي الوقت نفسه، تحاذر واشنطن الدخول في تأييد عون أو أيّ مرشّح آخر، لكي لا تكرّر تجارب سابقة تبنّت فيها مرشّحين، ولكنّها تعرّضت لإحراجات كبيرة لاحقاً، من مثل تبنّيها ترشيح النائب مخايل الضاهر عام 1988 ورفعها يومذاك شعار "إمّا مخايل الضاهر وإمّا الفوضى" في وجه الذين عارضوه من قوى سياسية كانت مسيحية بغالبيتها الساحقة. ولكن هذه المعادلة سقطت تحت وطأة المعارضة المسيحية لها، فقرّرت منذ ذلك الحين أن لا تتدخل في الأسماء والترشيحات الرئاسية وأن لا تضع "فيتو" على أيّ منها.

زيارة مطرّزة

ولفتت في هذا السياق زيارة السفير السعودي وليد البخاري لرئيس حزب "القوات اللبنانية" الدكتور سمير جعجع بعد غياب طويل عن معراب، قيل خلاله كلام كثير عن أنّ فتوراً ما أصاب العلاقة المتينة السائدة بين الجانبين، إذ قدم خلالها البخاري إلى جعجع "عباءة سعودية مطرّزة" حسبما أعلن بعد اللقاء.

وقد جاءت هذه الزيارة السعودية لمعراب "مطرّزة سياسياً" بعناية بحيث أنها أطلقت سيلاً من التفسيرات حول أهدافها وأبعادها والخلفيات التي لا بد أن تتكشّف في الأسابيع المقبلة. فهي جاءت بعد إنهاء سفراء المجموعة الخماسية جولتهم الأولى على المسؤولين والكتل النيابية والسياسية، لاستطلاع المواقف حول عقد طاولة "تفاهم" أو "تشاور" أو "حوار" مقدّمة للاتفاق على انتخاب رئيس الجمهورية، والتي يعوقها حتّى الآن عدم الاتفاق على الجهة التي ينبغي أن تدعو إلى هذه الطاولة، وعلى الجهة التي تترأسها وتديرها. فهناك فرقاء يشدّدون على أن يدعو رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى هذه الطاولة ويترأسها، فيما "القوات اللبنانية" وفرقاء آخرون في المعارضة يعارضون برّي ويقترحون خيارات أخرى لم يرسُ على أيّ منها بعد.

كذلك جاءت زيارة البخاري لجعجع بعد أيام على لقاء المعارضة في معراب الذي "حفظ شيئاً وغابت عنه أشياء"، إذ إنّ المواقف التي أطلقها لم تكن محلّ إجماع المعارضين في حدّ ذاتهم، إذ غاب منهم عن اللقاء جهات فاعلة ومؤئرة وممّن يسمّون "عتاة" المعارضة، وانتقدوه شكلاً ومضموناً، وأعقبت اللقاء حملة واسعة النطاق شنّها الخصوم على جعجع وجميع الذين شاركوا فيه.

إلّا أنّ بعض العارفين بطبيعة العلاقة بين الرياض وجعجع أعطوا زيارة البخاري لمعراب تفسيرين لا ثالث لهما: إمّا إعادة تطبيع العلاقة بين الرياض ومعراب، إذا صحّ أنّها كانت تشهد فتوراً في المرحلة الأخيرة، وفي هذه الحال يكون إهداء العباءة السعودية المطرّزة إلى جعجع للتأكيد أنّ "القوات اللبنانية" كانت ولا تزال تحت العباءة السعودية ولم تخرج عنها، وأنّ الرياض في المقابل ما أخرجتها أصلاً عنها. وإمّا لأن تسوية ما اقتربت من الإنجاز وتلعب الرياض مع شركائها في المجموعة الخماسية دوراً رئيساً في هندستها، وقد بدأوا تحضير الأجواء اللازمة لها، ومن الطبيعي أن يبدأوا بـ"القوات" التي تعتبر "رأس حربة" المعارضة، ولذلك تكون زيارة البخاري لجعجع تمهيداً لتسويق هذه التسوية الموعودة لاحقاً. وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على صحّة ما تقرّر في اجتماع السفراء الأميركيين حول العالم، أو حول الشرق الأوسط على الأقل، من أنّ انتخاب الرئيس اللبناني الجديد وضع في صدارة الأولويات في هذه المرحلة لإنجازه قبل انغماس واشنطن في انتخاباتها الرئاسية.