ليس إصرار "حزب الله" على ربط حرب جنوب لبنان بحرب غزة مجرّد مكابرة أو رغبة عمياء في تعطيل المبادرات والأفكار والتسويات التي تطرحها باريس وواشنطن، بل نتيجة طبيعية لإعلانه "حرب المساندة والمشاغلة" في 8 تشرين الأول الفائت بحيث بات رهين وعده وشعاره، ولإدراكه أن أي قبول بالفصل بين الحربَين سيرتدّ عليه بسلسلة تنازلات وخسارات تبدأ ولا تنتهي، ولا يمكن تعويضها بوعود سياسية عرقوبية في الداخل اللبناني غير مضمونة ولا محسومة.

لكنّ التبصّر في أعماق الأزمة وأسباب المأزق يؤدّي إلى النتيجة نفسها، سواءٌ نجح الفصل بين المسارَين أو استمرّ ربطهما، تماماً كحرب غزة التي أنتجت مفاعيلها الممكنة، ولا يُنتج المزيد منها في رفح وسواها، تغييراً جوهرياً في هذه المفاعيل.

فكلّ الأفكار والاقتراحات حول وضع الجنوب وأسس التسوية تتقاطع عند مصبّ واحد هو تطبيق القرار 1701 كاملاً، مع بعض الصياغات اللفظية على الطريقة اللبنانية لتخفيف وقع التسوية وما فيها من تراجعات، مثل عبارة "إعادة التموضع" الفرنسية بدل "انسحاب" مقاتليّ "الحزب"، أو التلطيفات الشكلية الأميركية في إطار غزل التفاوض مع طهران.

والثابت أن نَصّ القرار شديد الوضوح وغير قابل للتأويل أو التفسير والاجتهاد، كما يفعل أهل السلطة في لبنان بالدستور والقوانين والأعراف والاستحقاقات.

في الواقع، إن تنفيذ القرار 1701 بكل مندرجاته يعني عملياً إخلاء منطقة عمليات الجيش اللبناني وقوات ال"يونيفل" من الميليشيات، وهذا ما ترفضه قيادة "الحزب" لأنها تخشى فقدان عنوانها التاريخي "المقاومة الإسلامية في لبنان"، بما تعنيه من مواجهة ميدانية مباشرة وترابط جغرافي، سواء تحت شعار تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، أو تثبيت الحدود والنقاط العالقة على الخط الأزرق، أو زفّ "الشهداء على طريق القدس".

وفي حال التنفيذ الكامل ستكون الخسارة الأشد فكّ الالتحام الإيراني - الإسرائيلي الميداني المباشر والوحيد في صراع طهران مع تل أبيب، وإنهاء حالة العداء الملتبسة بينهما، فلا معنى أو تأثير كبير للحرب والتحرير بالمراسلة عبر المسافات، وقد حدثت تجربة إيرانية عن بُعد بالصواريخ والمسيّرات العابرة للدول، قبل ٣ أسابيع، وذهبت نتائجها مع الريح، ولحق بها الردّ الإسرائيلي الغامض.

أمّا مقولة بقاء المقاتلين لأنهم أبناء البلدات والقرى في منطقة عمليات القرار 1701 فهي خاضعة للبحث والبت على أساس تحوّلهم إلى مواطنين مدنيين غير مسلّحين ومنظّمين في مجموعات خارج سلطة الجيش اللبناني وقوات الطوارىء الدولية.

كما لا تستقيم مقولة تقليد إسرائيل بصيغة الحرس للمستوطنات، لأن هذا الحرس، في حال وجوده، يخضع لإمرة الجيش الإسرائيلي المطلقة، خلافاً لحال مسلّحيّ "الأهالي" غير الخاضعين للشرعية اللبنانية، وقد قضى اتفاق الهدنة 1949 بتقابل جيشين نظاميَّين على طرفَي الحدود، مع ضبط عديدهما وعتادهما لدى الجانبَين، وليس بتوازي خليط ميليشيات وجيش.


مسار تغيير متعدد المستويات، في السياسة والأمن الاستراتيجي والمعادلات، من الجنوب إلى بيروت

ولعلّ "حزب الله" لا يزال يراهن على تسوية تُعيد عقارب الساعة إلى ما قبل 8 تشرين، أي حرية تحرّكه المسلّح جنوب الليطاني، وتحكّمه بدوريات ال"يونيفل" تحت يافطة "الأهالي"، وكذلك إلى إعادة إنتاج "تفاهم نيسان" 1996، والاحتفاظ بقرار الميدان حرباً أو سِلماً، وب"قواعد الاشتباك" التقليدية، وكأنّ لا شيء تغيّر بعد "طوفان الأقصى"، ولا توازنات جديدة طرأت، ولا مساومات حصلت وتحصل بين "الجمهورية الإسلامية الإيرانية" والولايات المتحدة الأميركية في الساحتَين السورية والعراقية وسواهما، وصولاً إلى الساحة اللبنانية، وهذا نوع من التعامي عن الوقائع والحقائق، خصوصاً أن شركاءه وحلفاءه في لبنان، وأبرزهم الرئيسان نبيه بري ونجيب ميقاتي، يطالبون علناً ويلحّون على التنفيذ الكامل للقرار 1701، وينسّقون مع باريس وواشنطن، ويعدّلون تعابير في أوراق التسوية بتشجيع وإسناد منه، فهل يخوّنهم ويهدر دماءهم، إضافةً إلى عشرات الشخصيات المعارضة وغير المعارضة، كما فعل مع المعارضين الذين اجتمعوا في معراب لمجرّد مطالبتهم بتنفيذ القرار نفسه ونشر الجيش لضبط الحدود، أم أنه يوزّع الأدوار للتخفّي خلفها، فيلتزمها أو يتنصّل منها، صعوداً وهبوطاً، على وقع المصالح الإيرانية؟

في الحقيقة، لقد بدأ يجد نفسه في مواجهة قاسية مع النتائج السياسية الواقعية للحرب، بوجهها الأصلي في غزة ووجهها الاستطرادي في الجنوب، وبدأ يتلمّس أن هذه النتائج آخذة بالتبلور والتراصف، ثمّ التدافع كأحجار الدومينو.

ويحقّ له أن يتحسّس من الاقتراحات الفرنسية والأميركية رغم انخراطه في مناقشتها والتفاوض عليها، وأن يتوجّس، ليس فقط من تنفيذ القرار 1701، بل أيضاً من "اليوم التالي" بعد التنفيذ، ومن دينامية استحقاق القرارات ذات الصلة وتحديداً 1559 و 1680، حين يتحقّق من مرارة انكفاءاته وانهيار شعاراته التي نسجها على مرّ السنوات وتوّجها بعبارة "الانتصارات الإلهية".

وإذا كانت معادلة "ما بعد... ليس كما قبل" قد سارت على كلّ شفة ولسان في الآونة الأخيرة بعد أحداث كثيرة، خصوصاً منها إثنين هما "الطوفان" وصواريخ إيران، فإنها ستنطبق بامتياز على القرار 1701، لأن ما بعد تطبيقه الفعلي لن يكون كما قبله، فهو سيفتح الطريق أمام مسار تغيير متعدد المستويات، في السياسة والأمن الاستراتيجي والمعادلات، من الجنوب إلى بيروت، إلى ديار المساومات الإيرانية الواسعة على ملفّات كثيرة، وإلى تظهير ما يتمّ رسمه من تسويات عتيدة لأزمات الشرق الأوسط.